-أنتَ لَا تعرِفُ مَعنى أَن يكُون
المَرءُ وحيدًا وضَائعًا، ذَلك سَيءٌ
للغَاية.
[ صَدِيق ]
حَبستُ أنفَاسِي الضجِرةَ بعَد سَاعةٍ أثنَاء جلُوسي واستمَاعِي لثرثرةِ أركتُوروس الذِّي لَا يَتوقفُ عَن الحَديث حتَّى يَلتقِطَ نفسًا ليُتابع وُيتفوه بكُل مَا يجُول جوفهُ، حَيثُ أخبرنَا عَن حيَاتهِ في الرِيف مَع وَالديهِ ورَعيهِ للبقرِ والأغنَامِ وأصدقَائهُ فِي المَدرسةِ الذِّينَ يتجاوز عددهُم المِئة ! هَذا الفتى حتمًا لَيس مُناسبًا ليكُون صديقًا لِي ..
أومَأتُ مُجددًا ووضعتُ ابتسَامةً مُزيفةً عَلى شِفتيَّ مِن أجلِ مُجاملتهِ فَ لَو لَم يكُن وَالدِي هُنَا لَصفعةُ رَأسهُ فِي الحَائطِ حتَّى يتوقف عَن الكلام، كَيف للمَرءِ أَن يتحدَّث دُون دقِيقةٍ وَاحدة يتوَّقف بهَا ويسكُن فِي دَاخِل الصمت ؟.
ألقَى فَجأةً بكلمَاتهِ التِّي لفحهَا سؤالٌ جَعلنِي أُحدِّجُه بصمتٍ لَا يَشبهُ الفَوضى الموجُودة دَاخِل صَدرِي : « أُورِين، هَل تمتلكُ أصدقاءً فِي المَدرسة ؟ ».
أصدقَاء ؟ لَقَد دَفعتُ مَن يُحاوِل الإقترَاب عنِّي حتَّى سكنتُ فِي الوِحدةِ ولَم يَعد فِي قُربِي رغبةً لأحدٍ غَرِيب ..
« لَا ».
إجَابةٌ وَاحدة خَرجت مِنِّي ليَقطِب أركتُوروس حَاجبيهُ ثُم أردفَ بنبرةٍ لفحهَا الدهشةُ والحِيرة : « حقًا ؟ ذَلك غَرِيب، أنتَ تبدُو لطيفًا لِذَلك ظَننتُ أنكَّ مشهُورٌ فِي مَدرستكَ وتمتلكُ العَدِيد مِن الأصدقَاء ! ».
كَبحتُ ضِحكةً سَاخرة مِن كلمَاتهِ الأخِيرة حِينَ تَسللت لسَمعِي فَ أنَا وإن كُنتُ مشهُورًا سَأكُون منبُوذًا لَا محبوبًا كَما يَظُّن، الجَمِيعُ يمقُتنِي ولَا أحَد يَرغبُ فِي مُجاورتِي لأننِي سَيء ..
ازدردتُ لُعابِي لتَبلِيل رِيقي الجَّاف قَبل أَن أُجِيب عَلى حدِيث أركتُورس : « لَا أُرِيد أصدقاء، ذَلك كُل مَا فِي الأمرِ .. ».
همهمَ بتفهمٍ وأعتقِدُ أنَّ صَمتهُ بعَد ذَلك كَان حَدِيثي سَببهُ الذِّي حَاولتُ بهِ إلقَاء مَا يجُول فِي فكرِي، أنَّنِي لَستُ صديقًا لـأحَد.
قَبضتُ عَلى يَدِي قَبل أَن أستَئذِن للذهَاب إلَى غُرفتِي فَ إستوقفنِي وَالدِي ليُشير لأركتُوروس بالذهَابِ مَعِي مِن أجلِ الغُرفة التِّي تُجاور خَاصتِي .. تنهَّدتُ بِهدُوءٍ لأطبَع خُطواتِي إلَى ممرِ الغُرفةِ بينَما الآخرُ يَلحقُ بِي رُغمَ تجاهُلِي لِنداءهِ لِي.
« هَذهِ غُرفتُكَ وتِلكَ خَاصتِي، سأكُون مُمتنًا إِن لَم تكُن بحاجةٍ لمُساعدتِي ! ».
أردَفتُ بصرَاحةٍ دُون أي مُجاملةٍ أستوقِفُ سَيرِي أمَام بَاب غُرفتِي ليُطالعنِي بحَاجبينِ مِرتفعَينِ ثُمَ يُومئ برَأسهِ لمرةٍ وَاحدة قَبل أن يَعُود للحَدِيث مَرةً أُخرى.
حِينهَا عَلمتُ أنَّني إن بَقيتُ هُنَا سأحطِّم لهُ رَأسهُ فِي الحَائِط لِذَلك تجاوزتهُ أدلِفُ إلَى غُرفتِي وأُغلِق البَاب مِن خَلفِي .. أخيرًا، الرَّاحة.
ألقَيتُ بجَسدِي عَلى السرِير لأعُود فِي بِحارِ فكرِي أُبحرُ ثُم أغرَقُ ليكُونَ مَلبثِي المُعتَاد، أركتُوروس .. يُثِير قَلقِي بَعض الشَّيء فَهُو شَخصٌ مُختلفٌ تمامًا عنِّي.
طَاقةٌ تُشعُ بالإيجَابيةُ والإبتهَاجِ تدُورُ حَولهُ حتَّى شَعرتُ للحظةٍ مَا أنهُ غَرِيبُ أطوَار.
لَستُ مُعتادًا عَلى وجُودِ شَخصٍ يُحادثنِي ويَنعتنِي بـ الصدِيق ..
كُل مَا أتمنَاهُ أَن يَبتعِد عنِّي حتَّى لَا أقُومَ بأذيتهِ فَ أنَا أمتَلِكُ مَزاجًا سَيئًا ومُتقلبًا بِشكلَ مُرعِب.
بَقيتُ أعُوم فِي أحَاديثٍ مُتناقِضة بينَ الرغبةِ فِي صدِيقٍ وعقلٍ يُخبرنِي بإبعَادِ كُل مَن يقتحِمُ بُقعتِي حتَّى تلَاشى الضَوءُ مِن عَينيَّ حِين انسدَلت أجفَانِي بهدُوءٍ ليكُونَ النومُ ملبثًا لِي.
…
شَعرتُ بأنَاملٍ ضِدَّ وَجنتِي فَ إرتفَعت يَدِي تُحاوِل إبعَاد المجهُول عَنهَا لكِّنهَا لَم تَرحَل، فَتحتُ ستَائرِي بِبطءٍ أرَفعُ حَدقتيَّ للفَاعِل .. خَرجت صَرختِي مِن ثغرِي وإرتد جَسدِي للخَلفِ حتَّى سَقطتُ مِن السرِير عَلى الأرض.
إنسَابت قهقهَاتٌ عَالِية جَعلتنِي أستقِيمُ مِن بُقعتِي والألمُ يَلتهمُ أطرَافِي بينمَا الغضبُ إكتسَح بَاطنِي بضياعٍ عندمَا وَجدتُ مِن أركتُوروس يَنزعُ قِناعًا مُرعبًا كَان موجودًا عَلى وَجههِ ليُخيفنِي ..
أيُّ سخفٍ يَفعلتهُ معِي هذَا الفَتى !!
« مَا الذِّي تفعلهُ الآن ؟ هَل تَظُّن أنَّ مَا تقُوم بهِ مُزحةٌ مُضحِكة ؟ ».
خَرج صَوتِي بإزدراءٍ وَاضحٍ حِينَ إرتفَعت نَبرتِي ليتوَّقف هُو عَن الضحكِ ثُم يُطالعنِي أُتَابع حَدِيثي : « مَن سَمحَ لكَ أيضًا بدخُول غُرفتِي ؟ لتخرُجِ الآن !! ».
أشرتُ بأصبعِي صَوبَ البَابِ بينمَا أنفَاسِي بَدأت تضطرِبُ وتضِيقُ إثرَ صُراخِي، وَقف أركتُوروس مِن مكَانهِ ليَضع يَدهُ عَلى رقبتهِ ببعضٍ مِن الحَرجِ الوَاضح : « أنَا أسِف .. أرَدتُ المُزاحَ مَعك ».
تَسللت ضِحكتِي السَّاخِرة لأعقِد يدَاي إلَى صَدرِي وأردِفُ بنَبرةَ مُتهكِّمة صرِيحة : « وهَل تُسمِي هَذا مُزاح ؟ مَا فعلتهُ مُجرد سخفٍ لَستُ حابذًا لرؤيتهِ ! ».
حدَّجنِي بعَينينِ تَسللهَا لمعانٌ طفِيفٌ قَبل أَن يُنزِل برَأسهِ ويُلقي بإعتذَارهِ مُجددًا ثُم يَسحب ذَاتهُ لخَارجِ الغُرفةِ ..
عُلَّقت حَدقتيَّ فِي الفرَاغِ وإجتَاحنِي شعُورُ الذنبِ حتَّى أغلَقتُ جِفنيَّ فِي مُحاولةٍ لتخفِيفه عَن طرِيق مُحَادثةِ نَفسِي : « فَعلتمَا هُو صَحِيح، أنتَ لَست مُخطئًا .. وأيضًا، أنَتَ لَا تُحب المزَاح ! لِذَلك .. آه تَبًا ! ».
تَوقفتُ عَن الكلَامِ أُبعثرُ شَعرِي بِخفةٍ وإستيَاءٍ قَبل أن أَستلقِي عَلى السرِير فِي مُحاولةٍ للهرُوبِ دَاخِل نومٍ قَد رَحل وَلم يَعُد لي رغبةٌ فِي زيارتِي مُجددًا ..
لَا بَأس أُورِين، مَا فَعلتهُ كَان جيدًا، مِن المُمكنِ أن يكُون سببًا حتًَى يُزِيل أركتُوروس فِكرة صدَاقتنَا التِّي لَم تُعجبكَ مُنذُ البِداية.
…
تَسلل ضَوءُ الشمسِ لعَينيَّ التِّي لَم تَنم حتَّى الآن فَ وَضعتُ ذِراعِي فَوقهُمَا لحجبهِ سلَاسلِهَا المُزعجةِ لِي لكِّننِي سُرعَان مَا وَقفتُ أهرعُ إلَى للإغتسَالِ حِينَ رنَّ المُنبهُ للمَرة السَّابعة ..
وحَال خرُوجِي بعَد تغييرِي لثيَابِي بَاتت خُطواتِي بطيئةٌ أُحاوِل بهَا سَحبَ ذَاتِي إلَى غُرفةِ الطعَامِ التِّي بُعثَ مِنهَا أصواتٌ خَافتة لَم تَشبه صخِيب أركتُوروس.
قَضمتُ وَجنتِي داخليًا بأسنَانِي ثُمَ سِرتُ نَاحيةَ الكُرسِي المُقابِل لوَالدِي فَ كَان الفَتى الغَريبُ يُجاورنُ فِي الجلُوسِ لأُقلِّب مَا أمَامِي دُون رغبةٍ فِي تنَاوِل شَيء.
وَجهتُ بصِيرتِي إلَى أركتُوروس ثُمَّ أردتُ ألفِتُ إنتبَاههُ مِن الهدُوء : « هَل إنتهَيت ؟ ».
حدَّق بِي لبِضعِ ثوانٍ ثُمَّ إستقَامَ مُجيبًا : « نَعم، شُكرًا لكَ يَا عَم عَلى الفِطار ! ».
حَدَّجتهُ يُحادِث وَالدِي ثُم يَتبعُنِي بهدُوءٍ يُناقِضُ مَا كَان عَليهِ البَّارِحة فَ علِمتُ جيدًا أننِي سَببُ ذَلك.
كَبحتُ أنفَاسِي المُحبطة وَجلستُ فِي السيَّارةِ بعيدًا عَنهُ فَ بَات الهُدوء سَيدًا للمكَانِ بينِي وبينهُ وحتَّى السًَائِقُ مَعنَا ..
أشعُر ببعضٍ مِن الذنبِ حِيَال صُراخِي عَلى غريبٍ لَا يعرفنِي قَام بوضعِنَا تحتَ مُسمى الصدَّاقةِ هَذا.
لكِّنني أيضًا أُحاوِل مَحيهُ لكونِي مُحقًا حَول ذَلك ..
المِزاحُ بتِلكَ الطرِيقة سَيء، لَيس جيدًا، وغبيًا نوعًا مَا.
شَعرتُ بحَدقتَيِّ أركتُوروس تَلتقِطُنِي بينَ الحِينِ والآَخر فَ إلتَفتُ لهُ ثُمَّ أردَفتُ أُحطِّم صمتًا مَكث المكَان : « مَا فَعلتهُ البَارحةَ لَم يُعجبنِي بَل ضَايقنِي، لِذَلك أتمنَّى أَن لَا تُكرر فِعلتك .. ».
حسنًا، لَن أقُوم بالإعتذَار عَن غَضبِي كَونِي مُحقًا حِيَال مَا حَدث لكِّن يَكفِي كَلامِي مَعهُ حتَّى يَتوقف عَن رَمقِي بهَذهِ الطرِيقةِ التِّي تجعلُنِي أشعُر ببعضٍ مِن الذَنب.
وَجدتهُ يُقابلنِي بإبتسَامةٍ وَاسعة بينمّا يهُز رَأسهُ بالإيجَاب : « حسنًا ! وأنَا أسِفٌ لمَا فَعلتهُ .. كُنتُ أعتقِد أننَا أصدقَاء و.. ».
بَدأ بالثرثَرةِ مُجددًا يُبرر لِي سَبب فِعلتهُ، فَ قَبل إنتقَالهِ مِن الرِيف إلَى المَدينةِ كَان يملِكُ العَدِيد مِن الأصدقَاءِ الذِّينَ يحبذُون المُزاحَ والصخَب وتِلكَ إحدَى طُرق استمتَاعهِم .. الغَريبة.
بَدى للحظةٍ مَا أحمقًا لكِّنهُ أيضًا عفويٌ يَتصرَّفُ دُون تفكيرٍ سَابِق لِذلك وجدتُنِي أَردف : « اسمعنِي أركتُوروس، أنتَ فِي المَدينة الآن .. لَيسَ الجمِيعُ كَ أصدقَائكَ فِي الرِّيف، ضَع حدُودًا فِي تعامُلكَ مَع الأشخَاصِ هُنَا حتَّى وإن جمعتُكم صَداقةٌ مَا.. ».
الأمرُ غَريبٌ حِينَ تحدَّثتُ كثيرًا لكِّنني فَقط وَجدتُني أُلقي بكلمَاتِي لهُ دُون سَابق تَفكير.
« وأيضًا كُن حذرًا، لَا تثِق كثيرًا ولَا تُقربهُم مِن دَائرتكَ حتَّى تُثبت لكَ الموَاقِفُ أنهُم يستحقُّونَ البقَاء مَعك ».
الأمرُ الأكثرُ غرابةً كَان مُتابعتِي لحَدِيثي بنصِيحةٍ بَسيطة، حسنًا .. هُو يَبدُو أحمَق يُسهَل خِداعهُ لِذَلك يَجُب أن أقُوم بتحذِيرهِ حتَّى لَا يتِّم إستغلالهُ مِن قِبَل أي شَخصٍ هُنَا.
تَوقفت السيَّارةُ عَن الحَركة فَ أردَفتُ بكلمَاتِي الأخِيرة قَبل خرُوجِي مِنهَا : « إضَافةً لكُل مَا قُلته، لّا تَلحق بِي فِي المَدرسة .. كُن كَ الغَرِيب لَا يعرِفُ مَن أكُون، حسنًا ؟ ».
عَقد حَاجبيهُ بحِيرةٍ كمَا توقعتُ عِندمَا تفوهتُ بحرُوفِي لكِّنهُ أومَئ بالإيجَابِ دُون مُحاولةٍ فِي الإعترَاضِ فَ أِزيحَ عَن كَاهلِي قلقٌ كَان موجودًا حِيَال قُربهِ مِنِّي ..
سَيتأذى إِن جَاورنِي لأنَّنِي سَيءٌ ومُؤذِي.
وكُل مَا فِي قُربِي مؤلمٌ يُدفن فِي بُقعةِ الظلَامِ الحَزينة خَاصتِي.
حَشرتُ سمَّاعاتِي فِي أُذنِي حتَّى أحجُب ثَرثرةٍ مَن حَولِي حَال دخُولِي إلَى المَدرسة، توجهتُ إلَى خِزانتِي لأعُودَ بخُطوتِي إلَى الخَلفِ حِينَ سَقطت العَدِيد مِن الأورَاقِ المُمزقةِ وبعضُ المِيَاهِ التِّي لوثت صفحَات كُتبِي ..
شَددتُ بِقوةَ عَلى قَبضتِي فَ هُم بالتأكِيد يترقبُّونَ رَدةَ فِعلِي، غَضبِي، صِيَاحِي بهم، ثُم شِجارِي معهُم، هُم مُجردُ أوغادٍ لَا أفهَمُ مَا يجُول دَاخِل عقُولِهم الغَرِيبة.
لَم أستَطِع كَبحَ رَغبتِي فِي إغلَاقِ الخِزانةِ بقوةٍ ليتمرَّد صوتهَا فِي الأرجَاء يُخلِّفُ صمتًا لَبث أفواههُم حِينَ إلتَفتُ إليهُم بهدُوءٍ يُناقِضُ إزدرَائِي.
حدَّجتُهم بسُخريةٍ تَسلل مِن خلَالهِ حرُوفِي التِّي ألقيتُهَا عَلى سمعهِم : « لِما لَا تُواجهُوننِي بطرِيقةٍ مُباشرةٍ بَدلًا مِن القِيَام بأفعَالِ الأطفَالِ هَذهِ ؟ ».
رَغبتُ فِي الصُراخ وسحقهِم، لكِّننِي فَقط إبتَلعتُ بقَايَا حَدِيثي حِينَ زارنِي ندمٌ لمَا قُلتهُ .. تِلكَ الكلمَاتُ كَافيةٌ بإظهَارِ الأثرَ الذِّي يرسمهُ مَا يقُومونَ بفعلهِ مَعِي.
وَجدتُ مِن فتَى غرِيبٍ لكِّنهُ مألوفٌ يَسيرُ نَحوِي ليُحادثنِي حِينَ حدَّجتهُ بهدُوء مُزِج ببعضِ الغَضبِ والتهكُّم : « إنهُم يُريدُونكَ خَلف المَدرسة ».
خَلف المَدرسة ؟ تَصرُفّاتِ الأطفَالِ السخِيفة حتمًا لَن تنتهِي.
…
جَلستُ عَلى مِقعدِي فِي الصفِّ أجُول دَاخِل الفرَاغ
كَ عَادتِي، سأكُون غبيًا إن رَسمتُ خُطواتِي إلَى مَن يَستدعِيني فَ إن كَان يُريدنِي ليَأتِي بقَدميهِ حَيثُ أكُون !
حتَّى وإن كُنت وحيدًا وَبائسًا، ضعيفًا ذُو جوفَ مُهشَّم، إلَّا أننِي فِي بَعضِ الأحيَانِ لَن أستَطِيع الصمتَ وتركَ الغَرِيب يأمُرنِي بمَا يريد.
مِن الجيِّد أن أركتُوروس لَيس مَعِي، لكَان هُو ضَحيةً لهُم بدلًا مِنِّي ..
فُتحَ بَابُ الصفِ عَلى مِصراعيهِ ليُصدرَ ضجيجًا مُزعجًا جَعلنِي أحشُر أُصبعِي فِي أُذنِي قَبل أَن أُزيحهَا وأُدحرِج حَدقتيَّ مَصدرهِ حِينَ تَسلل اسمِي مِن الصخبِ الذِّي كَانُوا يفتعلُونه : « أُورِين ! ».
أبصَرتهُم بغَيرِ إكترَاثٍ ليستوقِفَ سَيرهُم فَتى ذُو خُصلاتٍ شقراء كَان هُو صَاحبُ الصوتِ الذِّي يُنادِيني : « أ لَم يُخبركَ أحدهُم .. أَن تَأتِي خَلف المَدرسة ؟ ».
قَاطعتهُ بنَبرةٍ تخللهَا تهازُؤٌ أثَار إستفزَازهُ : « هَل إعتقَدتَ أننِي سَآتِي ؟ يَا للسُخرية .. ».
أطلَق ضِحكةً مُتهكِّمةً قَبل أَن يَسحبنِي مِن قميصِي جاعلًا مِن جِذعِي يَستقيمُ حتَّى وَقفتُ أُطَالعهُ دُونَ مُبَالاةٍ وجمُودٍ جَعلت مِن علَاماتِ الغَضب تستحِّلُ وَجههُ حتَّى شَعرتُ بهِ يَدفعُنِي للخَلفِ عِبرَ لكمةٍ وُجهت نَاحيةَ وَجهِي ..
ترنحتُ قليلًا قَبل أَن أُحاوِل التمَاسُكَ رُغمًا عَن ألَمِ اللكمةِ فَ هِي لَم تكُن بسِيطة، تَجاهلتُ مَا حولِي مِن شهقَاتٍ وعيُونٍ تُراقب مَا يحدُث وإندَفعتُ لهُ بلكمةٍ قَويةٍ جَعلتهُ يَسقُط بينَ ذراعِ صَديقهِ الذِّي أمسكَ بهِ حتَّى لَا يَسقُط.
سَاعدهُ بالوقُوفِ بينمَا أنَا حدَّقتُ بهمَا بإنزعَاجٍ بَات ظاهرًا عَلى مَلامحِي ليُقَابلنِي بشيءٍ شبِيه لِي، تقدَّم نَاحيتِي مُجددًا بعَد شتيمةٍ لَم أسمعهَا ليُحاوِل لكمِي لكِّننِي تَفاديتهُ وجعلتُ مِن جَسدهِ يندفعُ نَاحيةَ الخَلفِ حتَّى يَفترِش الأرَض ويرتطِم بالمِقعد.
لَم أستّطع كَبح ضحكتِي السَّاخرة التِّي كَانت كَافيةً بِجعلهِ يُحاوِل الإستقَامةً مرةً أُخرى ثُم يتوجه صَوبي رغبةً فِي ضَربِي لكِّننِي أمسكتُ بقَبضتهِ وَشددتِ يَدِي عليهَا حتَّى بَات أنينهُ يَتسلل بخفُوت : « لا تُفكر بتفرِيغِ غَضبكَ السخِيف ولَمسِي مُجددًا يَا وغِد، هَذهِ المرةُ الأُولى والأخِيرة لك ! ».
خَرجت تهدِيدَاتِي بوضوحٍ تَسللهُ غضبِي لِيرمُقنِي هُو بإزدراءٍ لَم يزل عَن وجههِ ثُم يتجاهَل مَا قُلتهُ ويندَفع بقوةٍ تجاهِي حتَّى تمايلَ جسدِي وَسقطتُ عَلى ظهرِي أرضًا بَينمَا هُو إتخذ مكَانهُ فَوقِي وبَدأ بتوجِيه قَبضتهُ عَلى وَجهِي مرارًا وتكرارًا.
حَاولتُ حِمايةَ ذَاتِي لكِّننِي أُصبتُ بالمَزِيد ليَكتسحنِي غضبٌ أصابنِي بالعَمى فَ دفعتهُ بعُنفٍ ثُم قَلبتُه أرضًا لأبدَأ فِي ضربهِ بقُوةٍ كمَا كَان يَفعل مَعِي ..
لَم أستَطْع التوقُف وَلم يَتدخَّل أحَد، ورُغمَ نزِيف وَجههِ تنَاسيتُ كُل شَيءٍ وبِتُّ أردُ لهُ مَا فعلهُ لِي لكِّن صُراخَ المُعلمِ أفاقنِي حِينَ دفعنِي عنهُ لترتفِع حَدقتيَّ نَاحيتهُ ثُم إلَى أركتُوروس الذِّي يُطالعنِي بدهشةٍ جَعلتنِي أُشيح ببصِيرتِي عنهُ.
لَقد فَقدتُ سَيطرتِي عَلى ذَاتِي
وتَركتُ مِن الغَصب يلتهِمُنِي ..
ذَلك سَيءٌ للغَاية.
…
« إعتدَل بوقُوفِكَ يَا وَقح ! ».
صَرخ المُديرُ يِفِيقنِي مِن غيَابِي دَاخِل طيَّاتِ ذهنِي التِّي أُعاتِب بهَا ذَاتِي عَلى مَا إرتكبتهُ مِن خطيئةٍ كَان الغَضبُ وَسيلةً لهَا فَبَات شعُور الذنبِ يَلتهمُ جَوفِي حتَّى غَرقتُ دَاخِل فكرِي فِي مُحاولةٍ لمحِي مَا يجتَاحُنِي.
تَجاهلتُ حروفًا أُلقيت عَلى سمعِي تُخبرنِي بأننِي أمتَلكُ خللًا فِي عَقلِي وأنَّ الجنُونَ سَيطر عَلى فكرٍ كُنت صَاحبهُ الوَحيد.
لكِّنني لَستُ كذَلك .. لَستُ كمَا يُقال لِي.
لِماذا ؟ لِماذا لَا يَسألُنِي أحدٌ عمَّا حَدث ؟ لِماذا لَا يُحاولُوا تَفسيرَ الأمرِ بِناءً عَلى سَردِ مَا حَصل بدلًا مِن سَكبِ كلمَاتهم عَلى سَمعِي ؟ هَل ذَلك طريقٌ مُختصرٌ مِن أجلِ حلِّ المُشكلة ؟ أَم رغبةٌ لإقمَاعِ كُل شَيءٍ بإلقَاءهِ لِي ؟.
إرتجَفَت يَدِي حِينَ قُطعَ سَراب أفكَارِي بصوتِ صريرِ البَابِ الذِّي فُتحَ بهدُوءٍ ثُمَ ظهَر لبصيرتِي هَويةُ الفَاعِل .. وَالدِي.
لَا، لَيس هُو، لَا يَجُب عَليهِ أن يكُون هُنَا.
حدَّجتهُ يُطالعنِي بسكُونٍ ألقَانِي فِي جوفِ الإرتبَاكِ حتَّى طرَق حِذاءهِ عَلى الأرضِ صَوبِي فَ فتحتُ فاهِي لإخرَاجِ كلمةٍ تُبرر مَوقفِي لهُ .. لكِّن صَفعةً إلتصَقت عَلى وَجنتِي جَعلتنِي ألُوذ دَاخِل صمتِي.
لِماذا ؟ لِماذا يَقُوم بِصفعِي أمَام المُدير والمُعلم ؟ لِماذا لَا يُحاوِل سمَاعِي أولًا ؟.
« عَاقبهُ جيدًا يَا سَيِّدي فَ مَا إفتعلهُ سيءٌ لَا يُغفر ! ».
إرتخَت ملَامحِي وتَوقفت يَدِي عَن الإرتعَاش حِينَ تَسللت نَبرةُ صَوتهِ الجَّامِدة تُلقِيني فِي بُقاع الوَاقع المَرير.
هُو لَا يكترِث .. هُو لَا يُبالِي بمَا قَد يَحدُث لِي.
ذَلك لَم يكُن شعُورًا مُنذ رحِيل أُمِّي، بَل حقيقةً حَاولتُ تكذِيبهَا دائمًا.
لَم يَعُد أبِي كمَا كَان سَابقًا .. بَات بَاردًا يَغرقُ
فِي صَمتهِ ويُلقِيني بعيدًا عَن مَلبثٍ قَد يجمعُنَا.
لَم يُعانقنِي ويَمسح دمُوعِي ثُم يُسمعنِي حروفًا تُواسِي قَلبِي الحَزِين، بَل كَانت القُسوة لِسانًا لهُ والجمُودُ مكانًا لبقَاءهِ حِينَ يُحادثنِي.
« لَستُ المُخطئ الوَحِيد فِي مَا حَدث ! ».
جَمعتُ شِتاتِي وحَاولتُ مَحِي إرتبَاكِي ثُم أخَرجتُ حرُوفِي بجمُودٍ أرفَعُ مِن حَدقتيَّ تِجاه وَالدِي ..
قَابلتنِي نَظرتهُ الخَالِية مِن أيِّ مَشاعرٍ قَد تُذكر.
« فَقد وعَيهُ ومَكث فِي المَشفى بوجهٍ مُشوهٍ كُنتَ أنتَ سَببهُ فَ كَيف تُخبرنِي أنكَّ لَستَ المُخطئَ حِيَال مَا حَدث ؟ ».
مَاذَا عنِّي ؟ عَن جِراحٍ سَببهَا وكدمَاتٍ خلَّفتهَا لكمَاته ؟ لِماذا أكُون مُخطئًا فِي حِينِ أننِي لَم أبدَأ شجارًا مَعهُ !
كَيف أكُون مُخطئًا لمُجرد دِفاعِي عَن ذَاتِي ..
هَل ذَلك كثيرٌ لِي ؟ ألَا أستحِقُ حتَّى صدَّ أحدٍ عَن ضَربِي ؟ أوَلستُ إنسانًا أيضًا ؟ فَ لِماذا تُوجه أصَابعُ اللومِ نَحوِي دُون أَن يُحاوِلوا سمَاعِي ؟.
أنتَ مُجردُ نَكرةٍ أُورِين .. أنتَ لَا شَيء.
« هَل أكلَ القِطُّ لِسانكَ يَا أورِين ؟ ».
رَفعتُ حَدقتيَّ تِجاه المُعلِّم بجمُودٍ يُناقِض أنِينَ خَافقِي فَ دَحرجتُهمَا إلَى وَالدِي قَبل أَن أردفَ بهدُوء : « سأقبَلُ بأيِّ عِقابٍ يُصَاغ لِي ».
لَم يعُد هُنَاك فَائدةٌ مِن الحَدِيث والمُحاولة، الكِبارُ دومًا مُحقِّين ولَا يُخطئُون، ونحنُ وحدنَا
مَن نُسرِفُ فِي صُنعِ الأخطَاءِ دُون إكترَاث.
…
ألقَيتُ جِذعِي فوقَ أرضِ سَطحِ المَدرسةِ بعَد رحِيل وَالدِي وَقرارِ تَأجِيل عِقابِي حتَّى إستيقَاظ ذَلك الفَتى ..
تنفَّستُ الصُعدَاء أُغطِي عَينيَّ بذرَاعِي وأحجُب عنهَا سَلاسِل الضَوءِ الخَافِتة المُنبعِثة مِن تحتِ غيُومٍ رمَادِية تستولِي عَلى السمَاء.
فِي مُحاولةٍ لدَفنِ ميَاه مَدمعِي إجتَاحنِي ألمٌ دفِينٌ فِي بَاطنِي يُثقِل كَاهلِي ويَسحبُنِي ظَلامهِ الحَالك ..
يُراودنُي شعُورُ القَيدِ فِي ظُلمةٍ مُرعبة لَا مهرَب مِنهَا، فِي رغبتِي لتحرِير ذَاتِي وكَسر أصفَادِي سُكَب عَليهَا خُيوط العُقَد حتَّى بَات الأمرُ مُتعُبًا يُرهقنِي.
لَو بَقيت أُمِّي هُنَا لرمَّمت لِي ندُوبِي وضمَّدت لِي جِراحِي، فَ لِمَا الرحِيلُ كَان طرِيقهَا حتَّى بِتُّ وحيدًا لَا أجِدُ مَن يُجاورنِي فِي حُزنِي ؟
لَقد كَان كُل شَيء بِخير، حتَّى أصَابهَا المَرضُ وأهلَكهَا لتَرحَل فِي سنٍ صغِيرة تَاركةً خَلفهَا رجُلًا رَسم مِن القُسوةِ بُقعةً لهُ .. وابنًا كَان البؤسُ والألمُ ينتشِلَانهُ مُن الحيَاة.
شَعرتُ بلفحَاتِ سَيرِ أحدهِم لجَانبِي فَ خبئتُ شعُورِي وحرُوفًا يَنسابُ مِنهَا أنِيني ودموعًا تُلوث مِقلتيَّ ثُمَّ رَفعتُ مِن ذرَاعِي ووجدتُ مِن أركتُوروس يُجاورُ مَلبثِي ويتخِّذ مكَانهُ جَانب بُقعةَ إستلقَائِي.
لَمحتُ بينَ يَديهِ عُلبةً صغِيرة قَبل أَن يُلقيهَا لِي وألتقِطهَا قَبل إصتدَامهَا بِي : « عقِّم جِراحكَ حتَّى لَا يَبقى أثرهَا .. ».
حدَّجتهُ ببعضٍ مِن التفَاجُئِ الذِّي خُفي بجمُودِ مَلامحِي حِينَ إلتقَطَ سمعِي حرُوفهُ الغَرِيبة.
« أنَا موجُودٌ هُنَا، لَا تدخُل فِي شجارٍ لوحدِكَ وأنَا صَدِيقٌ لكَ يَا أُورِين ! ».
أبصرتهُ يُتابع حَدِيثهُ ثُم يَرمِي ابتسَامةٍ صغِيرةً لِي قَبل أَن يستقِيمَ ويَطبع خُطواتهُ بعيدًا عَن بُقعتِي.
وَجدتُنِي أُطَالِعُ عُلبةَ مَرهَمِ الجِراحِ وأُردد كلمَاتهُ فِي ذهنِي لينسَاب فِي جوفِي شعُورٌ غرِيب تَسللهُ الدهشَةُ والحِيرة حتَّى بَات الإرتبَاكُ يُقيدنِي.
صَدِيق .. مَا الذِّي تعنِيه هَذهِ الكَلِمة ؟.