-كُنتَ السعَادةٍ لشخصٍ نَسيَ مَا تعنِيه.
[ مَدينةُ الألعَاب ]
« أُورِين ! ».
صَرخةُ أركتُوروس سَكبت فِي جوفِي فزعًا حِينَ إقتحمَ غُرفتِي لأُقَابلهُ بمَلَامح لَم تخلُو مِن شعورٍ تَسللنِي فَ انسَابت ضحكَاتهُ لرؤيتِي بهَذا الحَال.
أركتُوروس .. أنتَ حتمًا وغِد.
« تَعال معِي .. » مِن دُون سَابِق تنبيهٍ طَبع خُطواتهُ نحوِي ثُم بيَدهِ تِمسكنِي وتسحبُنِي خَلفهُ مُتجاهلًا مُحاولَاتِي فِي مُسايرتهِ والبقَاء ثابتًا حتَّى لَا أسقُط مِن شدَّة لَهفتهِ التِّي عُكسَت عَلى مَشيه.
« لِماذا لَم تَذهب إلَى المَدرسةِ أركتُوروس ؟ ».
نَطقتُ أُفلتُ سؤالِي بحيرةٍ طفِيفةٍ حِينَ إنتعلَ حِذاءهُ ليُشيرَ لِي نَحو خَاصتِي فَ مَاثلتهُ فعلتهُ دُون إكترَاثٍ لسُخريتهِ التِّي أسمعنِي إياهَا : « هَل تمتَلكُ ذَاكرةَ سَمكة ؟ لَقد أخبرتُكَ البَارحة ! ».
« ذَاكرتِي ضعِيفة، مِن حُسن حَظِّكَ أننِي لَا زِلتُ أعرِفُ مَن تكُون .. ».
قَابلتهُ بتهازؤٍ يَشبهُ خَاصتهُ ليرمُقنِي بغيرِ تصديقٍ واضعًا يَدهُ عَلى قَلبه : « يَا لكَ مِن عجُوزٍ فِي سنِّ الربِيع .. مهلًا، هَل يُدعى بالورُود ؟ لَا أعرف، انسَى ذَلك ! ».
لَم أستَطع كَبح ضحكتِي وغَطَّيتُ ثغرِي عندمَا وَجدتهُ يُحادِثُ نَفسهُ بطريقةَ غرِيبةٍ مُخرجًا حرُوفًا لَم يكُن لهَا مَعنى وَاضح .. هذَا الفتى حتمًا أحمَق.
« سَأكُون صديقًا جَيدًا وأدفَع ثَمنَ سيَّارةَ الأُجرة، لَا تَنسى ذَلك أبدًا ! ».
نَطقَ أركتُوروس بتغطرُسٍ مُزيفٍ خلَّف بَعدهُ ضحكةً لَطِيفة أثنَاء سيرِنَا إلَى الخَارج لأُعيد تكرَار سؤالِي : « إلَى أيَن نَذهب ؟ ».
« هَل ستسعِيدُ ذَاكرتكَ إِن صَفعتُ رَأسكَ
فِي الحَائِط ؟ ».
إستوقَفَ سَيرهُ يُحدِّجُنِي لأرفَع كِتفيَّ بتَملُلٍ ليُدحرِجَ حَدقتَيهُ بإحبَاط : « أنتَ حقًا .. لَقد
أخبَرتُكَ البَارحة أننَا سَنذهبُ إلَى مدِينةِ
الألعَاب ! ».
زَارنِي حدِيثُنَا مِن اليَومِ السَّابِقِ لأفتحَ ثغرِي
بتفهمٍ فَ قلَّد فعلتِي مُردفًا : « أ تَذكرتَ الآن ؟ ».
رَفعتُ إبهَامِي بالإيجٍابِ ليُحدِّجهُ ويهزُ رَأسهُ زافرًا نَفسهُ ثُمَّ تَابع سَيرهُ فَ لَحقتهُ ببطءٍ حتَّى بِتُ قابعًا خَلفهُ وهُو يُثرثر فِي الأَمام ..
« مدِينةُ الألعَابِ فارغةٌ فِي الصبَاحِ حِينَ يكُون الطُّلَاب فِي المَدرسة لِذَلك قَررتُ التغيُّب اليَوم مِن أجلِ الإستمتَاع مَعك ! يَا أورُين .. هَل أنتَ سُلحفَاة ؟ لتَمشِي بِسرعة ».
شَعرتُ بيَدهِ تسحبُنِي مِن ذرَاعِي حتَّى بَاتت أقدَامِي تسيرُ ركضًا لمُوازنةِ سيرِنَا لأنَّ هذَا الفَتى سريعٌ فِي مَشيهِ حتمًا.
…
« إنهَا مَدينةُ الأحلَام ! ».
صُراخُ أركتُوروس تَسلل فِي الأرجَاءِ يلفِتُ إنتبَاه
مَن كَان موجودًا لهُ فَ إستَدرتُ بجَسدِي لجِهةٍ مُختلفةٍ كَأننِي لَا أعرِفُ مَن يكُون ..
سُحقًا، هذَا الفَتى يحبُذ الفَوضى ولَا يكترِثُ لأيِّ شخصٍ موجودٍ فِي بُقعتهِ.
أنَا أحسُده .. لَيتنِي أكُون أيضًا كَ أركتُوروس، لكننِي النقِيضُ بوضُوح لَا يحتَاج لدليلٍ أو مَا شَابه.
شَعرتُ فَجأة بَيدهِ تنتشِلُنِي وتأخُذنِي مَعهُ تِجاه إِحدَى الألعَابِ فَ أوقفنِي مَعهُ فِي الصفِّ القصِيرِ قَبل أَن ترتفِعَ عَينيَّ إلَى صرَخاتِ كَان مِن جوفِ قِطارٍ يُصدرُ صَوتَ مُحركَّاتٍ ضخمةٍ تلتفُ عَلى السِّكةِ وتنقلِبُ عكسًا عَلى عَقب ..
« لَا تُخبرنِي أننَا سنركبُ هَذهِ اللُعبة .. ».
تمتمتُ ألفِتُ حَدقتيهُ اللَّامِعةَ مِنهَا ليُومئ برأسهِ مرارًا وتكرارًا مُردفًا : « يَجُب عَليكَ تجرُبتهَا .. ».
« قطعًا لَا ! ».
جَابهتهُ بالنفِي فِي رغبةٍ لطرقِ حِذائِي بعيدًا عَن الصفِّ لكِنهُ لَم يترُكنِي بَل أمسَكنِي وأدخلنِي عمدًا إلَى الدَّاخِل مُسترسلًا : « لَا خَاصتُكَ مرفوضة يَا أُورِين ! ».
« أخَافُ المُرتفعَات .. ».
أردَفتُ بصرَاحةٍ فَ طَالعنِي بعُقدةٍ صغِيرةٍ قَبل أَن يتحدَّث : « تِلكَ نُقطةٌ مُتشابهة بيننَا ! أَنا أيضًا أخَافُ المُرتفعَات ! لكِّن .. لنُجرب هَذهِ اللُعبة فَ الحيَاةُ التِّي نعِيشُهَا لَن تنتهِي إِن وَاجهنَا مَا نخَافهُ أورِين ! ».
سُحقًا .. إعتقَدتُ أنهُ سيُخرجنِي بصُحبتهِ مِن
هُنَا لكِّن هذَا الفَتى يُحطِّمُ فكرِي وتوقعاتِي ..
شَعرتُ بجِذعِي يتخِّذُ مكَانهُ عَلى مِقعدِ القِطارِ ليُجاورنِي أركتُوروس الذِّي بَدى مُتلهفًا مِن أجلِهَا، زَارتنِي حيرةٌ تَسألُنِي عَن سَبب ذَلك .. فَ كَيف للمرءِ أَن يُصبحٍ سعيدًا لمُواجهةِ خوفهِ ؟ ذَلك مَا هُو مُتوقعٌ مِن هَذا الفَتى.
كَانت بِضعُ دقَائقٍ حتَّى تَسللَ صوتُ صُراخُ أركتُوروس وبصُحبتِي صِياحِي وذُعرِي مِن السُرعةِ التِّي إنطلقَ بِهَا القِطار .. سأمُوت اليَوم حتمًا.
…
« رُويدَكَ يَا أركتُوروس .. ».
« سُحقًا لكَ يَا أورِين ».
هَمسُهُ الخَافت خَرج تزامُنًا مَع تربِيتي عَلى
ظهرهِ بهدُوءٍ أثنَاء تقيئهِ حَال نزُولنَا مِن اللُعبةِ
التِّي جَعلت مِن الدُوارِ يُصيبُ رَأسِي حتَّى سُكبَ فِي جوفِي كُرهٌ نَحوهَا ووعدٌ لعَدمِ صعُودهَا مُجددًا.
« تستحِّقُ ذَلك ! ».
نَطقتُ بصرَاحةٍ ليُلقِي بنظرةٍ سَاخِطة
نحوِي تَشبهُ الجِراءَ الغَاضبة فَ دحرجتُ حَدقتيَّ ليمَسحَ ثغرهُ بالمَندِيل مُتابعًا : « لنُتَابع الآن ! ».
مهلًا مَاذَا ؟ أيُّ طاقةٍ يمتلِكُهَا هَذا الفتى ؟.
لَقد كَان يتَقيء مُنذُ بِضع دَقائقٍ ويُريدُ تجرُبةَ
لُعبةٍ أُخرى ؟ ذَاك غرِيب.
« هَل تشعُر أنكَّ فِي حَالٍ جَيدة ؟ ».
أردَفتُ ليُطالعنِي ويُقلِّد فعلتِي السَابقة رافعًا بإبهَامهِ وابتسَامتهُ تعتلِي ثغرهُ لتضِيقَ عينيهُ بلُطفٍ جَعلَ مِن شبحِ ضحكةٍ يزُورنِي.
خَرجنَا مِن دورَةِ المِياهِ العَّامةِ الموجُودة
فِي مدينةِ الألعَابِ ليُلفتنِي حَديثهُ الذِّي تَسللهُ سؤالٌ غَريب : « أَ ذَلك الأشقَرُ هُو تِلكَ البَطة ؟ ».
قَطبتُ جبِينِي بإستغرَابٍ أُدحرِجُ حَدقتيَّ إلَى مَن يَقفُ فِي بُقعةٍ بعِيدةٍ عَن مكَاننَا بينمَا بصيرتهُ بَاتت مُعلَّقةً فِي الهَاتف الذِّي يحمِلهُ بتمللٍ وَاضح لَم يُعجبنِي ..
« هُو تِلكَ البَطة ».
تَمتمتُ أستشعِرُ بعَينيَّ أركتُوروس تُطالعنِي حِينَ انسَاب صوتهُ ببعضٍ مِن الإنفعَالِ والتذمُر : « مَا الذِّي يَفعلهُ هُنَا ! لَستُ حابذًا لرؤيتهِ أبدًا أبدًا ! ».
لَقد قُمتُ بأذيتهِ كثيرًا .. يَبدُو طَالعهُ سيئًا نوعًا مَا.
لكِّننِي لَستُ نادمًا حِيَال ذَلك .. لَن يجتَاحنِي
شعُور النَدم عَلى مَا فعلتهُ للدِفَاع عَن نَفسِي.
« قَبضتُكَ .. حتمًا قوِية، أُنظر
للكدمَاتِ والجِراحِ التِّي لَم تَزُل
عَن وجههِ، وَوجهكَ أيضًا ! ».
دَحرجتُ حَدقتيَّ إلَى أركتُوروس الذِّي تحدَّث دُون إكترَاثٍ للتعابِير الغرِيبة التِّي يَرسمُهَا عَلى طَالعهِ وتقلِيدهِ لحركَاتِ المُلاكمةِ لكِّن حَال مُقابلتِي لهُ حدَّجنِي ببؤسٍ وَاضحٍ عَلى حَالِي ..
« عَلى أيِّ حَال، لنَذهب مِن أجلِ شِراء بعضِ المُثلجَاتِ قَبل الدُخول إلَى لُعبةٍ أُخرى .. ».
نَطقَ يَرفع قَبضتهُ لأُجابههُ بإستغرَاب : « لَقد تقيَّئتَّ لتوَكَ وتُريدُ اللعبَ مُجددًا وتناوُل المُثلجَات ؟ ».
رَفع كِتفيهُ بغيرِ إكترَاثٍ لأتنهَّد وأسِيرَ خَلفهُ نحوَ متجرِ المُثلجَاتِ لكِّن بصيرتِي إلتَفتت إلَى ذَلكَ الفَتى قَبل رحِيلي ..
حَيثُ بَات يُجاورهُ بِضعُ أشخَاصٍ بَدت هيئتُهم لَا تُوحِي بَأنهُم عَاديِّين كَ البقِيةِ هُنَا بَل، سيئون، هذَا مَا يُمكننِي قَولهُ لوصفِهم.
لكِّن .. مَن يكتَرِثُ حِيَال مَا يفعلهُ ؟ لَستُ أنَا.
…
إتكَئتُ عَلى الحَائطِ أُطَالعُ مَا أمَامِي
إنتظارًا لأركتُوروس الذِّي دَلف مُنذُ خمسِ دقائقٍ إلَى متجرِ المُثلجَاتِ بَعد أَن أخبرتهُ بعَدمِ رغبتِي فِي تناوُل شَيء ..
إلتَقطَت حَدقتيَّ مِن البَعِيد صُورةً لطِفلٍ يُجاورُ وَالديهُ الذَّانِ يحمِلَانِ سعادةً ضخمةً فِي طَالعهم بينمَا أنَامِلهُم تُمسكُ يَدهُ الصغِيرة ليرفعَانه حتَّى يُطلِق ضحكَاتهُ ..
اعتَلى شِفتيَّ شَبحُ ابتسَامةً لرؤيتهِم بمَا ذكرنِي بالمَاضي الذِّي لَم يعُد لوجودهِ خيطٌ فِي حاضرِي الحَزين.
فَ رددتُ فِي جوفِي أُمنيةً وَاحدةً لغُربَاءٍ لَم
يكُن لي عَلاقةٌ بِهم، أَن يكُونوا سُعدَاء دَائمًا.
كَبحتُ تنهِيدتِي الثقِيلة أُشيحُ بعَينيَّ عَنهُم حِينَ وَجدتُ مِن أركتُورُوس يخرُج سريعًا مِن المَتجر ..
« أُورِين ! ».
نَطقَ يلفِتُنِي إلَى نَبرتهِ القَلقةِ التِّي جَعلتنِي
أضيعُ إثرَ مَلامحهِ المُرتبِكة لينسَاب حَديثي
: « مَا الخَطبُ أركتُوروس ؟ ».
« يَجُب أَن نَذهب مِن هُنَا .. ».
عَقدتُ حَاجبيَّ بإستغرَابٍ ليُمسكَ بذراعِي
فِي مُحاولةٍ لسحبهِ لِي مَعهُ كَ العَادةِ لكِّننِي أبَيتُ ووقفتُ بثبَاتٍ أسئلهُ : « مَا الخَطبُ أركتُوروس ؟ مَا الذِّي يَحدُث فَجأةً حتَّى تبدُو قلقًا بهَذهِ الطرِيقة ؟ ».
حدَّجنِي لبُرهةٍ مِن الزَمنِ لينطِقَ بندَمٍ وَاضح
: « لَم أُخبركَ عَن ذَلك حتَّى لَا تَقلق لكِّن هُنَاك مَن يُلاحقُك .. ».
م-مهلًا .. مَاذَا ؟ مَا الذِّي يعنِيه بِذَلك الآن ؟.
« وضِّح لِي أكثرَ يَا أركتُوروس ! ».
أردَفتُ أُطَالعهُ بسخطٍ طفِيفٍ ليَجحظَ
عَينيهُ وهُو يُطَالعُ خَلفِي : « أُورين .. ».
« مَاذا ؟ ».
« لنَهرُب ! ».