-كَانت وعُود بائِسة، دُفنت فِي مقبرةِ الأمنيَات.


[ الوَداع ]

انكمَشت ملَامحِي بألمٍ وأنَا أُحاوِلُ كبَحَ مَا

يجتَاحُ جوفِي أثنَاء طَبع خُطواتِي المُترددِةِ إلَى

جوفِ بُقعةٍ أزُورهَا للمَرةِ الثَّانِية فِي حيَاتِي ..

فَ وَجدتُ مِن دمُوعِي التِّي أقُاومهَا تنسَابُ حَال شعُورِي ببرُودةِ أرجَاءِ المكَانِ الذِّي جَعلنِي اسألُ نَفسِي مَا إذ كَان الدِفئُ ينسَابُ لأركتُورُوس ..

حَدَّجتهُ ووجدتُ مِن غطاءٍ أبيضٍ يُخفِي

خَلفهُ وجهًا جَعل مِن يَدِي المُرتعِشةِ ترتفِعُ فِي تردُدٍ لرؤيةِ أسفلهَا لكِّننِي قَاومتُ وأزحتهُ لرغبِي فِي رؤيتهِ للمرةِ الأخِيرة ..

فَتحتُ ثغرِي لتَتسلل شَهقتِي وأنَا أرمُق هدُوءَ ملَامحهُ التِّي كَان يعتلِيهَا ابتسَامةٌ لَم تُمحى مُنذُ وُجودهِ معِي ..

بَدى شاحبًا، بَاردًا، هَادئًا، لَا يَشبهُ أركتُورُوس الذِّي لَا يكُف عَن كونهِ صَاخبًا ومُزعجًا دُون صَمتٍ يزُور صَوتهُ.

إرتفعت يَدِي تُغطِي فَاهِي بينمَا حَدقتيَّ

تدحرَجت بعيدًا عَنهُ لتنهمِرَ دمُوعِي التِّي ظَننتُهَا جُفَّت فَ كُرر نَفيًا دَاخِل ذهنِي لحقِيقةِ مَا أرَاهُ

أمَامِي.

أ هُو كَابُوسُ الوَاقع الذِّي سيُفيقنِي مُنهُ بصُراخهِ المُضجر ؟ أَم حُلمًا قاسيًا سيَضحكُ مِنهُ عندمَا يَعلم مَا أرَاه ؟.

أ لَا يُمكُن لِذَلك أَن يُصبح

حقِيقةً لَا كذبةً مِن أجلِ إنكَار

مَا تَراهُ حَدقتيَّ ؟.

« أركتُورُوس سَيكُونُ فِي قَلبكَ أُورِين .. ».

تَرددَ صوتهُ يَجعلُنِي أقبِضُ عَلى أطرَافِي وأَنا أرمُقهُ للمرةِ الأخِيرةِ أثنَاء تغطِيتهِم لوجههِ مُجددًا فَ لَم تستطِع أقدَامِي الثبَات حِينَ حَاولتُ سحبهَا إلَى الخَارجِ وسَقطت بالقُربِ مِن الغُرفةِ بينمَا صوتُ بُكائِي بَات مُترددًا لَم يُحاوِل أحدٌ مَنعِي مِنهُ.

شَعرتُ بيَديَّ ترتفِعُ نحوَ رَأسِي وتضرِبُ بُقعةً

يدُور فِي جوفهَا حديثٌ لَم يكُف عن كونهِ صاخبًا يُلقِي بالألَمِ فِي خَافقِي الذِّي بَات ينهشُنِي مِن ثَقلِ مَا يجتَاحُنِي مِن شعُورٍ أبَى الرحِيل ..

« لِماذا .. ».

خَرجت هَمستِي الخَافِتة وأنَا أُكرر سؤالًا أبَى تَركَ فؤادِي فَ وجدتُنِي أسَألُ ذَاتِي؛ لِماذَا أصَابنِي الأسَى ورَحلَ أركتُورُوس ؟.

كَانت رغبتِي فِي بقَاءهِ وحيدةً

دُون غيرهَا، أ كَان ذَلك كَثير حتَّى أرغَب بهِ ؟ أ لَا أستحِقُ وجُودهِ معِي أَن أَنهُ كُتبَ عَلي البقَاءُ وحيدًا حتَّى أكتُب خُطواتِي إلَى المَوت ؟.

مَاذَا عَن أركتُورُوس ؟ هَذا الصبِيُ الذِّي بَات جوارِ شخصٍ بَائسٍ يُقاومُ خَفايَا جوفهِ مِن دُون علمِ أحَد ؟ مَاذَا عَن أحلَامهِ وأمنيَاتهِ التِّي رَحلت معهُ ؟ لِماذا .. لِماذا رَحل هُو أيضًا ؟.

زَفرتُ أنفَاسِي المُضطربةٍ بثقلٍ

لتتدحرجَ حَدقتيَّ بتعبٍ أُحدِّج السِوارَ الذِّي يُعانِقُ معصمِي والآخرُ كَان بينَ أنَاملِي يَعُود لِمَن بَات فِي بُقعةِ الرحِيل كاتبًا وَداعهُ حتَّى أضَحى جُثمانهُ وحيدًا ينتظرُ دفنهُ تحتَ التُرَاب ..

أغلَقتُ عَينيَّ وأَنا أقبِضُ

عَلى السِوارِ وجوفِي يُرددُ جُملةً

وَاحدة؛ ليَكنُ كابُوسًا استَيقِظُ

مِنهُ الآن.

فَتحتُ أجفَانِي بفزعٍ ألتَقِطُ أنفَاسِي

بإضطرَابٍ وأنَا أُعيدُ تكرَار مَا رَأيتهُ فَ

وجدتُنِي فِي غُرفتِي وحيدًا ..

م-مهلًا .. أ كَان ذَلك، ح-حُلمًا ؟

أ-أعنِي كَابوسًا ؟ ذ-ذلك صحِيح.

« إنهُ كَابُوس .. ».

خَرجت تمتمَاتِي وأَنا أستقِيمُ مِن بُقعتِي

دُون إكترَاثٍ للدوَارِ الذِّي أصَابنِي إثرَ وقُوفِي السرِيعِ وركضِي إلَى الخَارجِ بخُطواتٍ ترتجِفُ صَوب غُرفةِ أركتُورُوس المُجاورةِ لخَاصتِي فَ وَجدتُنِي أفتحُ البَاب عَلى مَصراعيهِ ليُقابلنِي .. وقُوفهُ أمَام النَّافِذة بهُدوءٍ لَا يَشبههُ.

« أركتُورُوس .. ».

خَرجت هَمستِي بضُعفٍ لرؤيتِي لهُ لأرسُم سَيرِي نحوهُ دُون إكترَاثٍ حِينَ إرتطَمت قَدمِي بالسرِير ثُمَّ بمَا كَان مُلقى أرضًا مِن فَوضى تَشبههُ لألفِتَ انتبَاههُ حتّّى استَدارَ لِي.

قَابلتنِي مَلامحٌ جَامِدة، بَاردة،

شَاحِبة .. تَشبهُ مَا رَأيتهُ فِي الكَابُوسِ فَ خَرجت كلمَاتِي نفيًا لحقِيقةٍ لَا أُصدِّقها : « إنهَا مُجردُ كذبةٍ صحِيح ؟ أنتَ لَم تَرحَل كمَا قَال الطبِيب ؟ ».

« أجبنِي أركتُورُوس ! هُم

مُجرد كَاذبِين أليسَ كذَلك ؟! ».

لَفحتِي غصةٌ قيَّدت جَوفَ عُنقِي لأقبِضَ عَلى يَدِي وأكمُل حَدِيثي بإختنَاقٍ أبَى تَركَ الصُراخ يخرُج مِن عُمق خَافقِي : « أنتَ لَم تمُت أركتُورُوس .. ».

نَبرةٌ مُرتجِفة، ترتعِشُ خوفًا مِن الإجَابة.

ذُعرًا مِن الحقِيقة، رغبةً فِي

إنكَار مَا رَأيتهُ فِي .. الكَابُوس.

لَمحتُ ابتسَامةً خَافتة تعتلِي شِفتيهُ

لترتفعَ عَلى ملَامحِي رغبةً فِي سمَاعِ صَوتهِ

لكِّنهُ جَابهنِي بحرُوفٍ جَعلتنِي أعُود للوَاقع : « أركتُورُوس سَيكُون موجودًا فِي قَلبكَ أُورِين ».

وَجدتُ مِن طَيفهِ يَتلاشى ببطءٍ مِن أمَامِي ويَرجل كَأنّه لَم يكُن موجودًا ..

« أركتُورُوس .. ».

نَفيتُ برَأسِي أُدحرجُ حَدقتيَّ فِي غُرفتهِ التِّي دَلفتُهَا للمرةِ الأولَى فِي رغبةٍ لرؤيتهِ ليخرُجَ صوتِي مُجددًا بنبرةٍ مُزجت بالبُكاء : « أركتُورُوس .. ».

شَعرتُ بِشفتيَّ ترتجِف وأنَا اكبحُ نحِيبي لكِّن العَجز فِي مُحاولةِ الصمُودِ كَان طريقًا لِي حتَّى انسَابت شَهقاتِي لتنعدِمَ قُدرتِي عَلى الوقُوفِ وأسقُط ببطءٍ عَلى الأرضِ.

شِفتَاي أطلقت شهقة يلِيهَا صوتُ بكَائِي الذِّي تَردد فِي الأرجَاء حتَّى بَات مَا يُسمعُ دُون هدوءٍ يُجاورهُ ..

« أركتُورُوس، أرجُوك عُد .. ».

لِماذا تَركتَ صدِيقةَ وَجعلتهُ رُوحًا وحِيدة ؟

لَستُ ألُومكَ لكِّن فَقط عُد وأرِنِي ابتسَامتك.

« أركتُورُوس .. ».

الوِحدةُ مُخيفة .. الظَلامُ بَاردٌ وضجِيجُ اللَّيلِ مِرعب، فَ كَيفَ لِي البَقاء مِن دُونكَ بعَد كُل مَا عِشناهُ خِلاَل فَترةٍ قصِيرة ؟

لِماذا .. لِماذا تَرحل وتَأبى العَودة ؟ لِماذا

بِت بطلًا لطِفلٍ لَا يعرِفُكَ وأنقَذتهُ مِن الرحِيل لتُودعنِي أنذَاك ؟ مَاذَا عنكَ أركتُورُوس ؟ أ تُنقِذُ

مَن يُجاورُونكَ والغرِيبَ لتنَسى ذَاتك ؟.

تَركتُ مِن جَسدِي يرتطِمُ

بالأرضِ حتَّى بَات الإستلقَاءُ على

برُودةِ الأرضِ التِّي تَشبهُ

وحدتِي مكانًا لِي ..

عُدتُ لُبقعتِي البَائِسة حتَّى بَات الظَلامُ يلتهِمُ جُثمَانِي ويُلقِينِي فِي قوقعةِ اليَأسِ لأسَألَ

أركتُورُوس الذِّي لَم يعُد لوجُودِ طَيفهِ أثر ..

أ يُمكننِي الرحِيلُ كمَا فَعلت أنت ؟

فَ وجُودِي بَات لَا يُطَاق، أَنا مُتعبٌ أركتُورُوس، لَم تعُد لِي رغبةٌ فِي البقَاءْ والصمُودِ أكثَر مما فَعلت.

« لَا بَأسَ أُورِين .. ».

تَرددت كَلماتهُ بصورتهِ لسمعِي فَ بَكيتُ كمَا لَم أبكِي مِن قَبل حِينَ لَمحتُ مُجددًا طَيفهُ بالأرجَاء.

كَأنَّ التُرابَ لَم يحتضِن جُثمانهُ المَيت،

أرجُوك أركتُورُوس، إِن كُنتَ تسمعُنِي، عُد

مِن أجلِي.

« لَقد وعدتنِي .. ».

الوعُودُ وُجدت لتُكسر، والأشخَاصُ ليرَحلُوا، وفِي النِهاية سأبقَى وحيدًا مِن دُون أحَد لكِّن بجَانبِ ذكرياتٍ تقتُلنِي مرارًا وتكرارًا ..

« أركتُورُوس .. أَنا أفتَقِدُك ».

تَمتمتُ بخفُوتٍ قَبل أَن أشعُر بالحُلكةِ تنتشِلُنِي مِن إدرَاكِ الوَاقعِ إلَى وعييٍ آخر أفقَدنِي الإحسَاس بمَا حَولِي.

غارقٌ فِي ظلَام وِحدتِي مُجددًا.