-كَان على حَافة الإنهيَار، لكنهُ لم يقع.
[ جِراحٌ قَديمة ]
أحيانًا، قَد يكُونُ دخِيلُ حيَاتكَ مُحببًا لَك.
لأنهُ وإِن سَمحت لكَ الفُرصة بجَعلهِ يقتحِمُ
بُقعتكَ الوحِيدة مُجددًا، لَن تردعهُ عَن ذَلك.
« أُورِين لتُسرِع ! ».
صَرخَ أركتُورُوس وهُو يَركُض مًلفتًا برَأسهِ نَحوِي وأنَا أتبَعهُ بخُطواتِي البَطيئةِ إثرَ عَدم رغبتِي فِي العَودةِ إلَى المَدرسةِ لكِّنهُ بَدو مُتلهفًا لِذَلك ..
مِن أينَ يمتَلِك هَذهِ الطَّاقةُ الغرِيبة ؟ فَ أنَا بالكَادِ أُعِيدُ وعيي لنَفسِي حتَّى أُدركَ طرِيقي الذِّي سأرسُم مسَارِي عَليهِ اليَوم.
هُو نقِيضي، لَا نَشبهُ بَعض.
زَفرتُ أنفَاسِي قَبل أَن أبدَأ فِي الرَّكضِ خَلفهُ بينمَا هُو يقفِزُ فِي بُقعتهِ تارةً ويرمُقنِي بنظرةٍ ويُشيرُ لِي بالمجِيءِ حتَّى وَصلتُ لهُ فَ عاتبنِي مُردفًا : « أ لَم تُجرِّب يومًا صعُودَ الحَافِلات ؟ هِي لَن تنتظرنَا إِن تَأخرنَا يَا غبِي ! ».
« أنتَ مَن أصررَت عَلى ركُوبهَا مَعكَ فِي
حِينِ أنكَّ تعلَمُ جيدًا أننِي بَطيءُ السَير ! ».
جَابهتهُ أُدحرِجُ حَدقتيَّ بإستيَاءٍ أثنَاء ركضِي معهُ مِن أجلِ الحَافِلةِ التِّي ترسُم طرِيقهَا إلَى المَدرسة.
« مِن المُملِ الصعُودِ فِي السيَّارةِ دائمًا .. جرِّب شيئًا مُختلفًا ولَا تَسر عَلى حدثٍ ثَابت أُورين ! ».
إستوقَفتنِي كلمَاتهُ التِّي نَطقَ بهَا ببعضٍ مِن التذمُرِ لتنسَاب فِي فكرِي وتجعلُنِي أُعيدُ تكرارهَا فِي ذهنِي مَع مُوافقتِي لمَا قَالهُ بطرِيقةٍ غَير إعتيَادِية ..
وجُود صدِيقٍ بجَانبِي كَان الإختلَافَ
الذِّي أحدَث تغييرًا فِي حَياتِي وذَاتِي.
« تَوقف عَن الشرُودِ فِي أفكَارك، سنَقعُ
أرضًا مَع سُرعتنَا هَذهِ يَا أُورين ! ».
ألقَى بضحكَاتهِ يَقطعُ رغبتِي فِي الغرقِ
دَاخلَ جوفِ أفكَارِي الذِّي لَا يَنتهِي فَ وجدتُنِي أُحاوِل نَفض مَا يجتَاحُنِي مِن أحَاديثٍ طوِيلةٍ وأُتابع الرَّكض معهُ حتَّى وَصلنَا إلَى الحَافلةِ التِّي كَادت أَن تُغلقَ أبوَابهَا ..
« شُكرًا لَك يَا عم ! ».
نَطقَ أركتُورُوس وهُو يضمُّ يَديهُ بطرِيقةٍ لطِيفة ويُوجه شُكرهُ لسَائِق الحَافلةِ العجُوزِ الذِّي رَسم ابتسَامةً صغِيرة أردفَ مِن خِلالهَا : « هَذهِ المَرةُ الأُولى والأخِيرة .. ».
« لَن نتَأخر مُجددًا ! ».
أردَف أركتُورُوس وَاضعًا يَدهُ جَانب رَأسهِ كَ تحيةَ الجنُودِ لتُفلتَ ضحكتِي السَّاخِرةُ مِنهُ أثنَاء دخُولِي إلَى الحَافلة.
هَذا الفَتى، حتمًا شَيءٌ غرِيب.
…
« هَل سمِعتَ بمَا حَدث ؟ نِيُو طُردَ مِن المَدرسة ! لَا أعرفُ السَبب لكِّن وَالدهُ بَدى غاضبًا مِن حادثةٍ مجهُولةٍ لَا يعرِفهَا أحد، ذَلك مُثيرٌ للرِيبة نوعًا مَا ..».
إستوقَفتُ سَيرِي بجِوارِ أركتُورُوس الذِّي رَمقنِي ببعضٍ مِن الإستغرَاب للكلمَاتِ التِّي تَسللت إلَى سَمعِنَا أثنَاء سَيرنَا فِي ممرَاتِ المَدرسة.
« مَا الذِّي حَدث فِي غيَابنَا ؟ ».
نَطقَ أركتُورُوس بحِيرةٍ لأُطالعهُ بهدُوءٍ
قَبل أَن أُشيح عَينيَّ عَنهُ وأطبعَ خُطواتِي
إلَى الصفِّ دُون كلمةٍ تُذكر.
عَادت بِي ذكرَياتُ قدِيمةٌ إلَى حَادثةٍ كَان وَالدِي بجوَارِ أُمِّي وأنَا خَلفهُمَا حِينَ كَانَا يُخرجَان حديثًا تَسللهُ الغَضبُ حِيَال مَا إفتعلُوه الطُّلَاب بِي ..
حَيثُ كُنتُ ضحيةً للتَنمُر والنبذُ مُنهُم كَان مكَانِي، فَ بِتُّ محبُوسًا فِي المَخزنِ ليلةً كَامِلة لَم يجِدنِي فِيهَا أيُّ شَخص.
ظَننتُ أنذَاك أننِي وحيدٌ بَائسٌ لَا يستحِّقُ وجُودَ أحدٍ بقُربهِ كمَا قِيل لِي مِن قُبَل الصِغارِ فِي ظَّنٍ أنهَا حرُوفٌ عَابرةٌ سينسَاهَا المَرءُ حِين يَكبُر ..
لكِّن وَالدِي وأمِّي بحثَا عنِّي لسَاعاتٍ طوِيلةٍ
حتَّى وجدُونِي لوَحدِي مُرتعبًا مِن الظُلمةِ ليكُون البُكَاء طرِيقهُمَا بَعد أَن كَان فِكرهُم مُبعثرًا فِي مَا قَد أصَاب ابنهُمَا الوحِيد.
فَ كَان الغَضبُ مصيرهُمَا حِينَ علِمَا
بالحقِيقةِ التِّي يجهلُونهَا حَولِي ليَقُومَا بنَقلِي إلَى مدرسةٍ أُخرى مِن أجلِ بِدايةٍ جَديدةٍ لطِفلٍ تذوَّق مرارةً لَم يكُن عليهِ رؤيتُهَا ..
لكِّنَ الأمرَ ماضٍ وإنتهَى، كَيفَ لوَالدِي أن يُعِيد تكرَارَ مَا حَدث بعَد أَن سكَنت الغُربةُ بُقاعنَا ؟.
« يَبدُو أنَّ وَالدكَ قَام بتبلِيغِ الشُرطةِ
والمَدرسةِ حيَال مَا حَدث .. ذَلك الشَّيءُ
الوحِيدُ الذِّي تَوصلتُ لهُ ! ».
سَرقنِي أركتُورُوس مِن فكرِي بكلمَاتٍ حَاولتُ إنكَارهَا لأننِي خَائفٌ مِنهَا، مِن أَن وَالدِي قَد عَاد لحَالهِ فِي السَّابِق قَبل رحِيل أُمِّي ..
حَيثُ كَان الإهتمَامُ مِنهُ مسكُوبًا عَلى ابنهِ الوحِيد.
علَّقتُ عَينيَّ فِي الفرَاغِ أثنَاء جلُوسِي عَلى المِقعدِ بينمَا حقِيبتِي لَا زَالت عَلى ظهرِي لرَغبتِي فِي رؤيةِ أبِي .. وسؤَالهِ.
إضَافةً لعِتابٍ بَات يُردد فِي جوفِي،
لِمَاذا ؟ لِمَاذا بَات حالُنَا غريبًا بعدَ رحِيل
أُمِّي ؟ لمَا لَم نُحاوِل الإستنَاد عَلى بعضِنَا
البَعض ونُقاوِم صُعوبةَ وداعِهَا لنَا ؟ كيَفَ
وَصلنَا إلَى بُقعةٍ جَعلتنَا غُرباءٍ فِي حِينِ أننَا
أبٌ وابنهُ الوحِيد ؟.
لكِّن .. كَ عَادتِي، أبتَلعُ حرُوفِي وأُلقِي بتنهِيدتِي العَمِيقةِ لعلَّهَا ترمِي ثُقلِي وتُريح جوفِي مِن كُل
شَيء.
« خَلفَ تنهِيدَاتُكَ أحَاديثٌ طوِيلة .. فَ لِمَا الكُتمَان ؟ ».
قَطعنِي مِن سرَابِ الأفكَارِ الذِّي يَدُور فِي رَأسِي حرُوفُ أركتُورُوس التِّي لَفتت إنتبَاهِي حِينَ وجدتُ مَا يلمِسُ قَلبِي بطرِيقةٍ تَجعلُنِي راغبًا فِي الإفصَاحِ وإن كَان التردُد مَلبثي : « عَادةٌ لَا يُمكن تغييرهَا ».
« كُل شَيء يَتغيرُ فِي النِهاية ».
جَابهنِي مُبعثرًا خُصلَاتَ شعرهِ بغَيرِ
إكترَاثٍ لتجعيدتهِ التِّي تعقِدُ بعضهَا
فِي بعَض.
« لكِّن بَعضُهَا ثَابتٌ لَا يَكتبُ إختلافًا لطرِيقهِ ».
نَطقتُ أنزَعُ حقِيبتِي بعَد صراعٍ مَع ذَاتِي فِي رغبةٍ للرحِيل ولِقاءِ وَالدِي، والبقَاء دُون فِعل شَيء.
« تِلكَ رَغبتُكَ أَنت، فَ حتَّى الكُتمَانُ لَهُ مَا
يكسِرُ درعهُ الذِّي يَصدُكَ عَن الحَديث ».
أردَف مُستندًا بوجههِ بذرَاعهِ عَلى الطَّاوِلة مُدافعًا عمَّا قَالهُ لأكبِحَ تنهِيدتِي وأُجيب : « قَد يكُون ذَلك صحِيحًا .. لكِّنني لَا أكترِثُ حِيَالهُ فَ أنَا حبِيسٌ فِي الظَلامِ حتَّى بَات الإعتيَادُ لبُقعتِي طرِيقًا لِي ! ».
« حتَّى فِي حُلكةِ اللَّيلِ
تعتلِي النجُومُ السمَاء ».
نَطقَ يُخرجُ كِتابهُ وهُو يُشيحُ ببصِيرتهِ عنِّي فحدَّجتُ الفرَاغَ أُكرر كلمَاتهُ دَاخِل ذهنِي.
« الغيُومُ السودَاءُ لَن تَسمحَ بِذلك ».
« سَتنقشِعُ فِي النِهايةِ إمَّا
برحِيلهَا أو هطُولِ غدقِهَا ».
جَابهنِي حِينَ أردَفتُ بحرُوفِي لأُطَالعهُ يَرمُق
كِتابهُ فَ تَسللت كلِماتهُ إلَى ذهنِي تُلقيني فِي الحقِيقةِ التِّي أجهلُهَا ..
لكِّن، كَيفَ لبِضعِ حرُوفٍ أَن تَشبه طمَأنِينةً تُسكَب فِي بُقاعِ الفرَاغِ الموجُودة دَاخِل جَوفِي الحزِين ؟.
…
حدَّجتُ الحرُوفَ المُبعثرةَ التِّي كتبتُهَا فِي كِتابِي دُونَ أَن أُبَالِي مَا إذ كَانت وَاضحةً أَم لَا فَ بَدى لِي أَن الرسُوبَ سيكُونُ مَلبثِي هَذا العَام ..
تنهَّدتُ بخِفةٍ قَبل أَن ألتَفِتَ إلَى أركتُورُوس الذِّي وَجدتُ مِن رَأسهِ موضُوعًا عَلى الطَّاوِلة بينمَا النَّومُ قَد إستحلَّهُ حتَّى بَات شخِيرهُ الخَافت ينَسابُ بهدُوءٍ يُناقِضُ صخِيب طُلَّابِ الصفِّ حَال خرُوجِ المُعلِّم.
إرتفَعت أنَاملِي تنخزُ كَتفهُ
بخِفةٍ حتَّى يَستيقِظ لترتفعَ أجفَانهُ
المُرتخِية وينظُر لِي بنِصف عَينٍ
مُردفًا : « مَاذا ؟ ».
« أ ستمكِثُ هُنَا أَم نعُود للمَنزِل ؟ ».
نَطقتُ بسُخريةٍ طفِيفةٍ أُعِيد كُتبِي إلَى حقِيبتِي
فَ إستقَام يرمُقنِي بإستغرَاب : « مهلًا .. هَل انتهَى اليَوم ؟ ذَلك رائع ! لَم أشعُر بهِ ».
هَززتُ رَأسِي بيأسٍ مِن حَالهِ رُغمَ أنهُ يَشبهُ فعلتِي قَبل وصُولهِ إلَى هُنَا.
« سَنذهبُ إلَى جَدتِي .. ».
نَطقَ يحمِل حقِيبةَ ظهرهِ أثنَاء إرتدَائِي
لخَاصتِي ف تَسللت عُقدةٌ صغِيرة إلَى حَاجبيَّ تَسألهُ : « جدتُك ؟ هَل تمتلكُ جدةً تعِيش هُنَا ؟ ».
« هَل أنتَ أحمَق ؟ إنهَا الجَدةُ صَاحبةُ المَطعمِ الصغِير ! ».
جَابهنِي بإستهزَاءٍ ليزُورَ فكرِي تِلكَ العجُوز التِّي قَدمت لنَا خُبزًا بمُربى الفرَاوِلة، أ لَا زَال يُناديهَا
جَدتِي ؟ ذَلك لطِيف.
« ذهبتُ لهَا مَرتينِ والغرِيب أنهَا
سَألتنِي عَنكَ قَائلةً أينَ ذَلك الهزِيلُ الذِّي يُناقِض حجمكَ يَا أركتُورُوس ؟ فَ أخبرتُهَا أنكَ وغدٌ تعِيش فِي جوفِ النوم ! ».
حدَّجتهُ يُفصح لِي عَن شَيءٍ لَم يُخبرنِي عنهُ
سابقًا لأردِف بإستغرابٍ طفِيف أتجَاهلُ ما قِيل عنِّي : « لمَاذَا تسَألُ عنِّي فِي حِينِ أننَا غُربَاءٌ لَا نعرِفُ بعضنَا البَعض ؟ ».
تَابعتُ السيَّر بجِوارهِ إلَى خَارجِ الصفِّ ليُجيبنِي دُون أَن يتوَقف : « لَا زَال فِي هذَا العَالمِ القَذرِ أشخاصٌ جَيدُون .. ».
لَم أنطِق بِشيءٍ وإكتفَيتُ بالصمتِ أُفكِّر بمَا قِيل مِنهُ حَيثُ كَان واقعًا .. جَهلتهُ ونَسيتُه إثرَ وقوعِي فِي بُقعةٍ عَاتمة تُخفِي خَلف حَائطهَا مَا لَم تراهُ عَينيَّ بعَد رحِيل أُمِّي.
لَا زَال .. هُناك أشخَاصٌ جَيدُون.
أركتُوروس، الصدِيقُ الأوَّل والوحِيدُ
لِي هُو مِثالٌ عَلى مَا قِيل.
…
« أركتُورُوس ! لَقد أتَيتَ بصُحبةِ
صدِيقكَ اليَوم .. ».
تَسلَلَ صوتُ العجُوز إلَى سمعِي يَنتشِلُنِي
مِن هدُوءٍ كَان بينِي وبينَ مَن يُجاورنِي ليرمُقهَا بإبتسَامةٍ وَاسعةٍ أثنَاء إحاطتهِ لِي بذرَاعهِ عَلى كتفِي مُردفًا : « لَقد أخبرتُكِ يَا جدتِي، سَأُحضرُ هذَا الفَتى الذِّي يحبُذ النومَ كثيرًا ! ».
لَستُ أحبُذه، هُو مهربٌ مِن واقعٍ كئِيب تسللهُ خيُوطُ الضَوءِ حَال دخُولِ أركتُورُوس لحيَاتِي ..
« أنظُر كَم أنتَ هزِيل يَا فَتى ! يَجُب عَليكَ زيَارتِي كثيرًا .. مَا أصنعهُ شهيٌ وسَتُصبحُ بدينًا بِسببه ».
جَحظتُ عَينيَّ عِندمَا أحَاطت يديهَا الصغِيرة وجنتيَّ بإهتمامٍ قَبل أَن تضرِبنِي عَلى كتفِي بخفةٍ تسكُب عَلى سمعِي عتابًا طفيفًا : « يَجُب عليكَ أَن تأكُلَ جيدًا حتَّى لَا يزُوركَ المَرضُ والتَعب .. لَا تُهمِل ذَاتكَ المسكِينة يَا فتى ».
إرتخَت تَعابِيرُ وجهِي وأنَا أسمعُهَا لينعقِدَ
لسانِي دُونَ إجَابةٍ تخرُج عِبرَ ثَغرِي بينمَا صَوتُ
مَا يَقبعُ حولِي قَد رَحل وتَركنِي فِي بُقاعِ أفكَارِي التِّي أعَادتنِي إلَى كلمَاتٍ تَشبهُ مَا قَالتهُ لكِّنهَا بصوتِ أُمِّي ..
وجدتُ مِن يَدِي ترتجِفُ عندمَا لَمحتُ طيفهَا
أمَامَ عَينيَّ ليلتهِمنِي الشَوقُ والحنِينُ إليهَا فِي بُقعةٍ لَم يكُن لوجُودهَ أَثر.
لكِّننِي قَاومت، غَصةً قيَّدت عُنقِي، ودمُوعًا تَسللت فِي مِقلتيَّ، وصوتًا بَات يرتعِشُ ويرغبُ فِي الصُراخِ والنحِيبِ لمَا يحمِلهُ جوفِي مِن حملٍ ثقِيل ..
تنفَّستُ الصُعدَاء أرمُق أركتُورُوس الذِّي يُمازحُ تلكَ السيِّدة العجُوز التِّي قَابلتهُ بضحكَاتٍ لَطِيفة.
فَ وجدتُ مِن شَبحِ ابتسامةٍ يعتلِي شِفتيَّ عندمَا علِمتُ أنَّ بصُحبتِي صديقٌ يَشبهُ نجمةً فِي سماءٍ عَاتمةٍ لَم يكُن للضوءِ أثرُ فِي جُعبتهَا ..
قَبضتُ عَلى يدِي المُرتجِفة وتوجهَّتُ إلَى أحَدِ المَقاعِدِ الموجُودةِ لأتخِّذ مكَانِي عَلى بُقعتهَا قَبل أَن يَعُود صخِيبَ أركتُورُوس الذِّي لَفتنِي : « ضعِي الكثِيرَ مِن الطعَام يَا جَدتِي .. ولَا تقلقِي هُو مَن سَيدفَع ! ».
أشَار نحوِي قَبل أَن يجلِسَ أمَامِي مُلقيًا بضحكةٍ صغِيرةٍ مُحيت فَجأة وخلَّفت سؤالًا بقلقٍ واضح :
« هَل هُنَاكَ خطبٌ مَا أركتُورُوس ؟ ».
نَفيتُ برَأسِي ليُعِيدَ تكرارَ
سُؤالهِ : « مُتأكدٌ مِن ذَلك ؟ ».
« نَعم، لَا تقَلق .. ».
خَرج صَوتِي بمُقاومةٍ لغصةٍ تُحيكُ عُقدهَا
فِي عُنقِي وتُحاوِلُ مَنعِي مِن الحَدِيث بطريقةٍ جَيدة لَا تُظهرُ خفَايَا جوفِي فَ رَمقتهُ يُلقِي بتنهِيدةٍ خَافتةٍ قَبل أَن تخرُج كلمَاتِي التِّي كَان لِي رغبةٌ فِي نُطقها : « لِماذا ؟ ».
طَالعنِي بعُقدةٍ صغِيرةٍ بَينَ حَاجبيهِ لأُتَابع :
« لِماذا أصبحتَ صديقًا لِي أركتُوروس ؟ ».
« هَل هُناكَ سببٌ يَستدعِي فِعَل ذَلك ؟ ».
سألنِي يُريحُ ذَاتهُ بجَلستهِ ليلتهِمَ صوتِي صمتٌ ينتظرُ إجَابةً ألقَاهَا بعَد دَقائقٍ مِن السكُون : « لأننِي رَأيتُ ذَاتِي فِيكَ أُورِين .. ».
م-مَاذَا ؟ مَا الذِّي يعنِيه ذَلك ؟.
« أنتَ تَشبهُنِي .. كِلينَا فَقدَ شخصًا مَا وبَات
فِي الظُلمةِ باحثًا عَن سببٍ يَجعلهُ يعِيش ».
أردَفَ راسمًا عَلى شِفتيهُ ابتسامةً صغِيرة سَكبت بعضَ الضيَاعِ فِي جوفِي حِينَ سمعتُ حرُوفه : « لَقد إمتَلكتُ أخًا صغِيرًا مَاتَ قَبلَ عَامينِ فِي حَادثِ سيَّارة .. ».
جَحظتُ عَينيَّ بمشاعرٍ بُعثرَت عندمَا رُددت كلمَاتهُ التِّي لَمست خَافقِي ببعضٍ مِن الألمِ عندمَا تَابع : « لَقد فَقدتهُ وبِتُ فِي ضياعِي أعِيش لأخسرَ صديقًا كَان قُربهُ منِّي يَشبهُ أخِي ».
« م-مَاذَا .. ».
خَرجت كَلمتِي بخفُوتٍ ليُلقِي بِضحكةٍ وَاهنةٍ مُدحرجًا بحَدقتيهُ بعيدًا عنِّي : « لَقد كُنتُ عُدوانيًا بعَد رحِيلِ أخِي .. فَ كَتبَ صدِيقِي الودَاعَ لِي حتَّى بِتُّ خَاسرًا مهزُومًا فِي بُقعتِي دُون أحدٍ بجوَارِي ».
لَمحتُ لمعانًا خَافتًا فِي مُقلتَيهِ لأقبِضَ عَلَى يدِي دُونَ أيِّ كلمةٍ فِي رغبةَ لجعلهِ يُتابع حَديثه : « لَم يكُن مُلامًا عَلى ودَاعهِ لِي، لأننِي أستحِّقُ ذَلك .. ».
ل-لَا .. أركتُورُوس لَا يستحِّق ذَلك.
« رُبما، حينمَا نلتقِي سيعبُر مِن جَانبي وأنا لن أنظُر لهُ، كأننا غربَاءٌ جمعتنَا ذكريات جمِيلة ».
أردَف بضحكةٍ خَافتة قَبل أَن يرمُقنِي بعَينيهِ التِّي تَسللهُمَا ذبُولٌ أرَاهُ للمرةِّ الأُولى : « لِذلك أتيتُ إلَى المَدينة .. هرُوبًا مِن المكَانِ الذِّي لَم يعُد لِي فِيهِ أمانٌ يحمِينِي مِن سِهامِ البؤسِ القَاتِلة ».
« عِندمَا رَأيتُكَ علمتُ جيدًا أننِي نملِكُ
نُقاطًا مُتشابِهةً وإن كَان الإختلَافُ يمكُث
بيننَا .. ».
أردَف بعَد تنهيدةٍ عمِيقةٍ يرسمُ ابتسَامةً صغِيرة عَلى شِفتيهِ : « لِذلك، أنتَ الصدِّيقُ الذِّي لَا أُريدُ فُقدانهُ وإِن بَدوتُ أنَانيًا برَغبتِي ! ».
بَدت بَعضُ حرُوفهِ مُبهمةً لَم أفقهَ بهَا مَا يعنِي لكِّنني فَقط جَلستُ صامتًا فِي بُقعةِ فكرِي التِّي ألقَت حُزنًا عَلى أركتُورُوس ..
فَ لَم يزُر فكرِي أنَّ شخصًا بَدى قويًا يَحمِل فِي جُعبتهِ أحَاديثًا مؤلِمة.
لِمَاذَا عَلى الأشخَاصُ الجيِّدُون أَن يُعانُوا دائمًا ؟.
« قَد يبدُو ذَلك سخيفًا لكِّننِي أعدُكَ بالبقَاءِ مَعكَ أُورين .. وإِن لَم يكُن لِي وجُود هُنَا، سيكُون مكانِي فِي قَلبك ! ».
غَمزَ بعبثٍ ومِزاحٍ يُغيِّرُ شُحنَات الجَو التِّي لفحهُمَا الحُزنُ والألَم فَ انسَابت ضحكتِي الخَافتة حِيَال مَ خَرج مِنه.
هَذ الفَتى .. حتمًا شَيءٌ غرِيب.