-مَاذَا عَن البقَاءِ معًا دَائمًا وإلَى الأبَد ؟.
[ البَطة ]
رَفعتُ أجفَانِي أكشِفُ عَن حَدقتيَّ ببطءٍ حِينَ تمرَّدت سلاسِلُ الشمسِ لِي، إعتدَلتُ بجلُوسِي أحدِّجُ الفرَاغ فَ تعُود لذَاكرتِي أحدَاثٌ مَضت
حتَّى جَعلتنِي ألتَفتُ إلَى أركتُوروس ..
حَيثُ كَان يجلِسُ عَلى الأرضِ لِيغلبهُ النومُ دُون شعُورٍ مِنهُ.
وَجدتُه مِن رَأسِهِ يترنحِ بخفةٍ ليعُودَ للورَاءِ حتَّى يتكِئ عَلى الحَائط مِن خَلفهِ لكِّن ذَلك تلَاشى حِينَ تمَايل وكَاد أن يكُون السقُوط مَلبثهُ لو لَا جِفنيهِ اللذَّانِ إرتفعَا بصُحبةٍ تثاؤوبٍ غطَاهُ بكَفهِ ..
« أينَ نحنُ ومَن أنتَ ومَن أكُون ؟ ».
خَرجت تمتمَاتهُ بضياعٍ يُطالع مَا حَولهُ بحِيرةٍ جَعلتنِي أُحاوِل كَبح ضحكَتِي عَلى سذَاجتهِ وغرَابةِ مَا ينطِقُ بهِ.
قَبضتُ عَلى يَدِي حِينَ أدرَكتُ حقيقةَ مَا حَدث بيننَا فَ الإفصَاحُ عَن خَفايَا جوفِي وحُزنِي وحتَّى دمُوعِي جَعل مِن سلَاسِل الندمِ تُقيِّد جُزءًا مِن
خَافقِي ..
لَم يُعجبنِي بتاتًا مَا فَعلتهُ وبِتُّ ألُوم ذَاتِي عَلى
ضُعفِي ورغبتِي فِي محِي ذَاكرتهُ حتَّى يُصبحَ مَا
حَدث مُجرد وهمٍ لَا حقِيقةً يتلبسُنِي شعُور
الندمِ حِيَالَ مَا خَرج مِنِّي.
ذَلك سَيء، لِمَاذَا لَم أُوقِف ذَاتِي عَن البُكاء
وتركتُ مِن أركتُوروس يُجاورنِي فِي البقَاء ؟.
لِمَاذَا لَم أفعَل شيئًا حِيَال نَفسِي وبِتُّ فِي بُقاعِ الإنهيَارِ حتَّى كُشفتُ أمَام غريبٍ لَا .. مَهلًا، لَقد
قُلتُ لهُ أن نُصبَح أصدقَاء.
وألقَى بحرُوفٍ سُكبَ فِي جوفهَا طمَأنينةٌ ودِفئٌ
لَم يزُر بَاطنِي مُنذ رحِيل أُمِّي .. لكِّننِي خَائفٌ مِن شيءٍ غَيرِ إعتيَادِي.
لأننِي لَم أُجرب وجُودَ صديقٍ
يُجاورنِي وإعتَدتُ عَلى البقَاء
وحيدًا.
لكِّنني أيضًا .. لَستُ راغبًا فِي ذَلك.
أَن أكشِفَ لشخصٍ مَا عَن شيءٍ فِي
بَاطنِي.
كَأنَّ الإفصَاحَ عَن جَانبٍ ضعِيفٍ يُعَّدُ خذلَانًا لذَاتِي.
ذَلكَ الوَصفُ الأقرَبُ لمَا أشعُر بهِ لكونِي كتومًا لَا يَحبُذ الحَديثَ وإفرَاغَ مَا فِي بُقاعهِ الحزِينة لأحَد.
« أورِين .. ».
تَدحرجت حَدقتيَّ صَوبهُ فَ وَجدتُهُ واقفًا يُطالعنِي ببعضٍ مِن ملَامحِ النومِ التِّي لَم تَرحل عَن وجههِ ..
« لَا تشعُر بالندَّم حِيَال مَا حَدث .. مِن حَقِّكَ
كَ انسَانٍ أن تُفصح بتَعبِ جوفِكَ وتُلقي بدمُوعكَ دُونَ إكترَاثٍ لمَا قَد يُصاغ فِي فكرِ مَن حَولك، لكِّن لَا تُفرِط فِي الحَديث دَاخل ذهنكَ إن كَان مَن رأكَ صدِيقُك .. ».
إرتخَت تَعابِيرِي الضَّائعة وتلَاشت بُقاعُ الذنبِ التِّي تُحاصِرُ طَالعِي فَ وَجدتُنِي غارقًا فِي كلمَاتهِ كَأنَّ مَا يخرُج مِنهُ .. يُبعثُ صَوبَ قَلبِي للتربِيت عَليه.
رُغمًا عَن الصِراعِ الذِّي يحدُث فِي بَاطنِي إلَّا أننِي لَم أستَطِع إنكَار الدِفئ الموجُودِ فِي حرُوفهِ أركتُوروس
« الصدِيقُ يعنِي الأمَان، وأنَا لكَ مَسكنٌ للرَاحة ».
م-مَاذَا .. هُو، لِماذا .. لِماذا يُخبرُنِي بكُل هذَا وكَأنَّ مَا فِي ذهنِي .. مَفضوحٌ يَقرَأهُ ويُجِيب عَليه.
لِماذا .. لِماذَا يَا أركتُورُوس ؟
مَا الذِّي فَعلتهُ حتَّى تَغدُو صديقًا لِي ومَسكنًا للرَّاحةِ ؟.
ضِعتُ فِي حِيرتِي لكِّننِي هَززتُ رَأسِي بإيمَاءةٍ مُترددة قَبل أَن يطرِق أقدَامهُ نَحو الخَارج مُردفًا : « لنَذهب معًا إلَى المَدرسة ! لَا تكُن وغدًا وترحَل مِن دُوني .. ».
أركتُوروس .. هُو الصدِيقُ الأوَّل لِي.
وأنَا لَا أُريد فُقدانهُ حتَّى وإن كَان فكرِي
مُحبطًا مِن رَغبتِي إلَّا أنَّ خَافقِي سعيدٌ
لوجُود شخصٍ مَا بجَانبِي.
لأنَّنِي سَئمتُ الوِحدة.
…
« ت-توَقف .. سنتَأخر عَن المَدرسةِ إن وَاصلتَ السيرَ فِي طريقٍ لَا أعرِفُ أيَّ وجهةٍ نقصدُهَا ! ».
نَطقتُ أستوقِفُ سَيرِي بينمَا أُحاوِل إسترجَاع أنفَاسِي المُتعبةَ مِن الركضِ مَع أركتُوروس .. النشِيط، كَيف لهُ أنْ يَمتلِكَ الطَّاقةَ مُنذُ الصبَاحِ البَاكِر !؟ يَا لهذَا الفَتى الغرِيب.
« لَقد وصَلنَا ! ».
نَطق يَلفِتُ انتبَاهِي مِن تَعبِي ليُوجه بيدهِ تِجاه مَطعمٍ صغِيرٍ تَسللت مِنهُ رَائحةُ الخُبزِ والحسَاء.
فَ وَجدتهُ يدلِفُ ويُشيرُ لِي بالمَجِيء مَعهُ ..
هَل نحنُ هُنَا مِن أجلِ الفِطَار الذِّي أقُوم
بتفوِيتهِ كُل يَوم ؟ أعتقِدُ أنَّ ذَلك صحِيح.
« مرحبًا جَدتي .. ».
قَطبتُ جَبِيني أُزيحُ السِتارَ عَن وَجهِي أثنَاء دخُولِي ليتَسلل صَوتُ أجرَاسٍ صغِيرة عُلِّقت فِي أطرَافهَا.
« مرحبًا يَا صغِير ! ».
أجَابتهُ عجُوزٌ بيَضاءُ الشعرِ ويملئُ طالعهَا تجاعِيدٌ عدِيدة لتضِيف عينيهَا عندمَا رَسمت ابتسَامةً عَلى شِفتيهَا ورحَّبت بأركتُوروس.
مَا الذِّي يعنِيه .. بجَدتِي ؟.
لكِّن، ألَيس أركتُوروس مِن الرِيف ؟
أَم أَن جَدتهُ تعِيش فِي المَدينة ؟.
« هَل هَذهِ جدتُك ؟ ».
سَألتهُ فِي حِيرةٍ أثنَاء لحاقِي بهِ نحوَ إحدَى الطَاوِلَاتِ الفَارِغة حَيثُ لَم يكُن لوجُود أحدٍ
أثرٌ فِي المكَان.
« لَيست كَذلك .. ».
أجَابنِي يَتخِّذ مكانهُ عَلى المُقعدِ لأُجابههُ بضياعٍ وَاضح : « لِماذا تُنادِيهَا بـ جَدتك إذًا ؟ ».
أشَرتُ تِجاه العجُوزِ ليُجابهنِي وهُو يعقِدُ يدَيهُ خَلف رَأسهِ ويجلِسُ بطريقةٍ غرِيبة .. أعنِي هُو
يَرفعُ قَدمًا فَوق المِقعدِ المُجاور لَهُ والأخر يثنِيهَا بجَانِب جِذعه : « هَل أُناديهَا بالعجُوز ؟ ذَلك لَا يُعجبنِي .. ».
« لَقد أعجبتنِي جَدتِي يَا فتى، لِذَلك أخبرنِي الآَن بمَا تشتِهِيه أنتَ وصدِيقك ؟ ».
تَدحرجت بَصِيرتي إلَى العجُوز التِّي وَقفت بجوَارِ طَاولتنَا وبيدِهَا وَرقٌ صغِيرٌ مَع قَلمٍ أسوَد، أشَحتُ بعَينيَّ عنهَا حِينَ وَاجهتنِي بحَدقتيهَا لأستمِعَ إلَى أركتُورس يُحادِثهَا : « لتعطِينَا فِطارًا جيدًا وسريعًا فَ لَقد تبقى عَلى رنِين جَرسِ المَدرسةِ نِصفُ سَاعةٍ يَا جَدتِي ! ».
« أمتَلكُ خُبزًا وبعضَ مُربى الفرَاوِلةِ التِّي صنعتُهَا بنَفسِي .. ».
« ذَلك يُناسبُنَا، هَل يُمكنكِ تغلِيفهمَا لنَا ؟ سنعُود فِي المسَاء مُجددًا وسنتنَاوَلُ كُل مَا تمتلكِينهُ فِي قَائمتكِ ! ».
نَطق أركتُورس بإبتسَامةٍ عرِيضة لتُقهقه العجُوز بخفُوتٍ وتردِف : « ستُصبحُ مُفلسًا يَا فتى .. ».
« لَا تقلقِي حِيَال النقُود يَا جدتِي،
هَذا الصدِيقُ ثريٌ ولَن يُفلِس ».
مهلًا .. هَل أنَا مَن سيَدفع الحِساب ؟ يَا لهَذا
الفَتى الغرِيب، هُو حتمًا يقُوم بإستغلَالِي، ذَلك
مَا بِتُّ مُتأكدًا مِنهُ.
…
« هَل تعلمُ أنَّ الفرَاوِلة هِي الفَاكِهةُ
المُفضلة لِي ؟ آه! هَل تعرفُ أنَّ الطمَاطِم فَاكهةٌ وَليست خُضار ؟ لَقد كُنت أعتقِدُ ذَلك فِي بَادئ الأمرِ وذُهلتُ حِينَ عَلمتُ هَذا .. أعنِي، الطمَاطم، فَاكهة ؟ ذَلك حتمًا غرِيب ! ».
صدَّقنِي أركتُوروس، أنتَ الغرِيب الوحِيدُ فِي حيَاتِي.
« هَل تكتفِي بنِصفِ خُبز ؟ لِذَلك أنتَ نحيلٌ
بهَذهِ الطرِيقةِ أُورين ! ».
جَابهنِي ببعضِ الإستيَاءِ حِينَ غلَّفتُ بقَايا الخُبزِ
لأتوقفَ عَن ذَلك وأُطَالعهُ : « سأتقَيئ إن تنَاولتُ المَزيد .. ».
إبتَلعتُ بَقايا حَديثي عندمَا شعرتُ أننِي سَأُفصِحُ عَن المَزِيد.
لأنَّ عَادةَ الكُتمَانُ جُزءٌ لَا يُمكُننِي مَحيهُ مِن ذَاتِي.
« أُورِين .. ».
إلتَفتُ إلَيهُ ليُتَابع : « هَل تفعلُ ذَلك عمدًا ؟ ».
م-مَاذا .. ل-لِمَاذا قَد يَسألُنِي حيَال ذَلك وبملَامحٍ حمَلت تعابِيرًا جَامِدة، ومُرتخِية فِي الآن ذَاتهِ.
قَبضتُ عَلى يَدِي ثُم
تَجاهلتُه وسِرتُ بهُدوءٍ
أُردف : « سنتَأخر .. ».
ثُم بعَد ذَلك لَم يُجابهنِي بحرفٍ
وبَقيتُ فِي الصمتِ جَالسًا أغُوصُ
فِي فكرِي وأحاوِل مَحِي مَا يجتَاحُنِي
مِن ثقلٍ لَا يترُك جوفِي.
لأننِي .. أفعلُ ذَلك عمدًا.
أَن أمتنِعَ عَن تنَاوُل الطعَام.
مُنذُ رحِيل أُمِّي ..
لَم أذُق يومًا مَا يَملئ
فراغًا موجودًا دَاخِلي
حتَّى بَات الجُوعُ
طريقًا لِي.
حَاولتُ مرارًا وتكرارًا، لكِّنَ فُقدَانَ
الرغبةِ بَات طريقًا لِي حتَّى أصبَحت
عَادةً لَا يُمكنهَا المُغادرةُ مِن حيَاتِي
البَائِسة.
فَ كُتبَ لِي حديثٌ مِن
عَقلِي عَلى إستحقَاقِ حدُوثُ
ذَلك لِي، لأننِي عدِيمُ القِيمة.
« أنتَ غَبِي .. ».
إلتَفتُ إلَى أركتُورُوس الذِّي جَابهنِي
بكلمَاتهِ بغَيرِ إكترَاثٍ يُحدِّجُ طرِيقنَا ليُتابع : « لَا أحَدَ سيتضرر مِن أفعَالِكَ بإستثنَاءكَ فِي حِينِ أنكَّ لَا تستحِقُ ذَلك أُورين ! ».
تجمَّدتُ فِي بُقعتِي عندمَا رَمى بالحقِيقة
لسمعِي يجعلُنِي أستوقِفُ سيرِي وأُطَالعهُ
يمضِي دُون الإلتفَاتِ لِي .. أنَا لَا أستحِّقُ
ذَلك ؟.
…
تَلبستنِي بعضُ مشَاعرِ الخَوفِ أثنَاء سَيرِي
بجوَارِ أركتُوروس الذِّي أصرَّ عَلى قُربِي رُغم رَفضِي فَ وجدُتُ مِن كلينَا فِي ممرِ الثَّانوِيةِ حَيثُ تعلَّقت بَصيرةُ الجمِيع عَلى ذَاتِي لتنسَاب أحاديثٌ مُزعجةٌ كَانت مِن همسَاتهم الخَافتة ..
لِماذا لَا يَتوقفُوا عَن
الإكترَاثِ بمَا حَدث ؟
أ لَا يُمكننِي أَن أكُون
غَيرَ مرئِيٍ كمَا
يُعاملُوننِي ؟
غَطيتُ رَأسِي بقُلنسوةِ السُترةِ التِّي أرتدِيهَا فوَق الزيِّ المَدرسِي فِي مُحاولةٍ لتغطيتِي وعَدم إظهَار مَعالمِ الإنزعَاجِ التِّي مُزجت بالإرتبَاك إثر ذَلك ..
مُشاجرتِي مَع الأشقرِ لَم تكُن عَابرةً بَل شيئًا جديدًا لإضَافةِ كلمَاتٍ أُخرى بصُحبةِ مَا يُقَال
عنِّي عَادةً.
لكِّن؛ نَعتُهم لِي بالمُختلِ جَعل عُقدةً صغِيرة تنسابُ بينَ حاجبيَّ لإستغرَابِي مِنهَا، فَ هَل هُنَاك مَن هُو طبيعِيٌ وَسط البَشر ؟ لَا، الجمِيعُ يمتَلكُ خللًا فِي عَقلهِ .. ذَلك إن لَم أكُن أُحاوِل إقنَاع ذَاتِي بأنهَا مُجرد كلمةٍ عَادية، لَا تجرحُنِي.
كَاذبٌ أنتَ يَا أُورين، تَرغبُ فِي الصُراخِ ومُجابهةِ تِلكَ الكلِمَاتِ التِّي تجعلُكَ تُردد أنكَ لَست كمَا
يخرُج مِنهُم.
تَرغبُ فِي الدِفاعِ عَن ذَاتكِ حتَّى وإِن
لَم يكُن أحدٌ مُكترِثٌ للحقِيقةِ التِّي لَا
يعرِفُونهَا ..
أنتَ حتمًا مُثيرٌ للشَفقة يَا أُورين.
كَبحتُ تنهيدةً تُثقل كَاهلِي ثُم جَلستُ عَلى مُقعدِي ليُجاورنِي أركتُوروس فِي الجلُوس فَ
لَم يكُن لوجُودِ أحدٍ مكانًا معِي مُنذ البِداية.
« لِماذا .. ».
خَرجت هَمستهُ بحِيرةٍ تَلفِتُ انتبَاهِي وجَعلتنِي الحَظُ تحدِيجهُ لطَاولتِي، أعدتُ بصيرتِي لهَا مَع
مُحاولتِي فِي دَفنِ شعُورِي الحَقيقي نحوهَا : «
لأننِي ابنُ رجلٌ ثَري يَمنعُ وجُودَ مَن يستغِلهُ فِي
مُجاورتهِ حتَّى إن كَان لِسانهُ وقحًا .. ».
خَرجت ضِحكتِي بتهازُؤٍ حِينَ جَابهتنِي ذكرياتُ
المَاضِي.
عندمَا وُضعتُ فِي المَدرسةِ وكُنت شخصًا جَديدًا لَا يَشبهُ مَن هُو موجودٌ هُنَا، بَات الجمِيعُ بقُربِي راغبِينَ فِي استغلَالِ مكَانةِ وَالدِي الذِّي يَكُون رجُلَ أعمالٍ معرُوف .. لكِّننِي أبَيتُ ذَلك.
لَم تتملكَّنِي رغبةُ وجُودِ أحدٍ بجَانبِي إِن لَم يكُن مِن أجلِي، فَ بِتُ مُتغطرسًا منبُوذ، لَا يقترِبُ مِنهُ
أحَد.
« إضَافةً لِذلك، مُختَلٌ يَقتُل مَن يقترِب مِنه ».
تَابعتُ أُردد مَا سمِعتهُ أثنَاء وصُولنَا إلَى هُنَا فَ وَجدتهُ يُجابهنِي : « أنتَ لَست كمَا يُقَال .. ».
قَاطعتهُ حرُوفهُ بضحكةٍ مُتهكِّمةً حتَّى لَا
أصبح مُثيرًا للشَفقة : « أنتَ لَا تعرِفُني جيدًا يَا أركتُوروس، مَا رَأيتهُ البَارحة كَان مُجرد سخفٍ لَن يُكرر .. ».
تَسلل حدِيثي كبرياءٌ يَمنعُنِي عَن الحقِيقة، وإن كَان صدِيقي .. لَستُ راغبًا فِي فكرهِ القَلِق نحوِي، فَ الندمُ مقيتٌ وأنَا حبِيسهُ.
« لَم يكُن سخفًا كمَا تقُول، بَل تعبًا يفُوق
حجمَ طَاقتكَ التِّي تُحاوِل السيرَ فِي الحيَاةُ
رُغمًا عَن بؤسٍ أصَابك وأبى تَركك .. ».
م-مَاذَا .. لِمَاذَا يَنتقِي كلمَاتهُ بهَذهِ الدِقة
ويَصُفُ بهَا مَا أشعُر وكَأنهُ يَعلمُ مَا فِي جوفِي ؟.
لِمَاذَا يُنفِي حَدِيثي ويُصرُّ عَلى كلمَاتهِ
التِّي تشبهُنِي رُغمَ مُحاولتِي فِي إخفَاءِ
بؤسِ خَافقِي الوَاضح ؟.
لِماذا .. لِماذَا يَا أركتُورُوس ؟.
أشَحتُ بحَدقتيَّ عنهُ وأبصَرتُ الفَرَاغ فِي إرتبَاكٍ مِن سمَاعهِ يقُول شيئًا آخر .. يُظهر أنهُ يعرفنِي.
« أُورِين .. المُدير يُناديك ! ».
لَفتنِي صَوتُ المُعلِّم لتتدحرَجَ عَينيَّ بإنزعَاجٍ
قَطع فكرِي فَ وَقفتُ بإحبَاطٍ ثُم سِرتُ صَوب غُرفةِ المُدير بإستيَاءٍ مِن حَالِي التِّي تأبَى الصلَاح.
لَو أننِي فَقط لَم أُحاوِل الدِفاع
عَن ذَاتِي .. لكَان كُل شَيء بِخير.
…
« لَقد فكرنَا مليًا بعِقَابكَ وَقد إتخذتُ
قرَارِي حِيَال ذَلك، ستقُوم أولًا بالإعتذَار .. ».
ثَرثرةٌ مُزعجة، لَا تُعجبنِي، وَلن أستمِع لبَقاياهَ طبعًا : « لَن أعتَذر ! ».
« عَليك فِعلُ ذَلك ! ».
أصرَّ المُديرُ ببعضِ الإستيَاءِ لأُجابههُ بغَيرِ صَبر
: « هَل ترغبُ فِي طردِي مِن المَدرسة ؟ إفعَل
ذَلك إن كَان خيارًا جيدًا لعِقابِي لأننِي لَن أصبَّ
اعتذَارِي .. ».
« أُورِين ! ».
أوقَفنِي عَن الكلَامِ بإندفاعٍ جَعلنِي أُغلقُ جِفنيَّ لصخِيبهِ الذِّي صُحب بكلمَاتهِ : « لَستُ مكترثًا مَا إذ كُنتَ مُخطئًا أَم لَا، الفتَى الذِّي تَشاجرت مَعهُ لَن يَترُكَكَ وَحدكَ حتَّى يُسامحكَ ابنهُ و .. ».
« لَستُ مكترثًا، ليَفعل مَا يُريده ».
تَجاهلتُ حَديثهُ أرسُم سَيرِي صَوبَ الخَارجِ رُغمَ مُناداتهِ لِي فَ التعبُ نَال منِّي وَلم تعُد لِي رغبةٌ فِي مُواصلةِ الكلَامِ مَعهُ.
…
« مَا الذِّي حَصل ؟ ».
تَدحرجت حَدقتيَّ نَحو أركتُوروس الذِّي لَفتنِي
فِي طَالعهِ آثارُ تعبٍ خلفهَا ركضهُ، وبَحثهُ عنِّي
كمَا شَعرت.
كَبحتُ ضِيقِي حِينَ جَلس بجَانبِي لكِّننِي لَم
أستَطع تحمُّل مَا يجتَاحُنِي وتذمَّرت : « لَا أفهَمُ
مَا خطبهُم .. لكِّن مَا أنَا مُتأكدٌ مِنهُ أنَّ المزِيد مِن القرَفِ سيُضَافُ لحيَاتِي ! ».
« إلَى مَاذَا تُشير بالقَرف ؟ ».
« إلَى البَشر .. ».
« أ تَمقتُهم للغَايةِ حتَّى بَاتت
كلِمةُ القَرفِ مَا تصفهُم بهِ ؟ ».
ألقَى بِضحكتهِ ليهتزَّ رَأسِي بالنفِّي مُجابهًا مَا قِيل : « الكُره هدرٌ للمَشاعر، لكِّننِي فَقط أشمئزُ مِنهم »
لِماذا قَد أُبرر كلِمتِي لهُ ؟ حتَّى أنَا لَا أعلَم.
قَابلنِي بعُقدةٍ صغِيرة بَينَ حَاجبيهِ مُردفًا : « ألَيسَ القَرفُ مِن المَشاعر ؟ ».
حسنًا، لَستُ مُتأكدًا حِيال ذَلك لكِّنهُ مُجرد شعُور، لَا مهلًا .. لَيس شعُورًا، بَل شيئًا مُشابهًا للمَشاعر ..
« سأبحثُ فِي الأمرِ وأُجيبُك ! ».
نَطقتُ بصراحةٍ لأننِي أعلَمُ جيدًا أنَّ مُحاولتِي فِي الإعتمَادِ عَلى حَدسِي سَيُحرجنِي ويُلقِيني فِي بُقاعٍ لَا تعنِي شيئًا.
« تَوقف عَن الضحِك، ستجعلُنِي مُصرًا
حِيَال إجابتِي وإن لَم تكُن حقِيقية ! ».
أردَفتُ بإنزعَاجٍ أُطَالعُ أركتُوروس الذِّي يَضحكُ
دُونَ سببٍ وَاضح لكِّن بَدى لِي أنَّ مُحاولَاتِي فِي إثبَاتِ أنَّ القرَف لَيس شعُورًا تسببت فِي ذَلك ..
سُحقًا، هَذَا الطِفلُ حتمًا مُزعج.
…
حسنًا، أعتقِدُ أنَّ الشعُورَ السيِّء الذِّي يُراودنِي مُنذُ عودتِي إلَى المنزِل وحتَّى أثنَاء نومِي ثُمَّ إستيقَاظِي ووجُودِي فِي المَدرسةِ .. سَببهُ مَا يحصُل الآن.
حَيثُ يجلِسُ وَالدِي بصُحبةِ وَالدِ الأشقرِ فِي
غُرفةِ المُدِير مَع العدِيد مِن المسؤُولِينَ حَول العُنفِ المُفتَعل مِن قِبلي ..
بالتأكِيد لَن يكُون هُو المُخطئ، بَل أنَا وحدِي
المُتسبب فِي كُل شَيءَ سَيءٌ يُصاب بهِ.
تنفستُ الصُعدَاء أُحاوِل جمَع رِباط جَأشِي قَبل دخُولِي إلَى بُقعةٍ ستجمَعُنِي بهم، طَرقتُ البَاب
ثُمَّ دَلفتُ بهُدوءٍ خِلَاف بعثَرةِ بَاطنِي الهَزِيل.
عُلَّقتِ الأبصَارُ عَلى عَينيَّ فَ وجدتُنِي أرمُقهم بجمُودٍ وغَيرِ إكترَاثٍ ومِن بينهِم ذَلك الأشقرُ
الذِّي يَلفحهُ كدماتٌ وجِراحٌ لَم تُشفى ..
كَ حَالِي أيضًا، لكِّنني مشُوهٌ مِن الدَّاخِل فَقط.
يبدُوا أن اليومَ سيكُون مليئاً بما يُزعجنِي.
كَبحتُ أنفاسًا مُستاءةً مِن حَالي أُطَالعُ المُدير الذِّي يترَأسُ موضِعَ الجلُوس وبجَانبيهِ ثلاثةُ مسؤولِينَ لَا أعرفُ هويتهُم إضَافةً لمُعلمٍ لَم يكُن موجُودًا فِي الحَادثة .. يَليهمَا وَالد الأشقر وابنه الوَغد، وأخيرًا؛ وَالدِي.
حَيثُ يرمُقنِي بهدُوءٍ تَسللهُ بَعضُ مِن الإزدرَاءِ
حتَّى أضحت تقطِيبةُ حَاجبيهُ واضحةٌ لِي ..
وَقفتُ فِي المُقدمةِ لأسَحبَ كُرسيًا مُجاورًا
لِي ثُمَّ أتخِذ مكَانِي عَليهِ لألمحَ فِي بعضِ تفَاصِيل ملَامحهِم تعابِير تَهازُؤٍ لَم أفهَم سَببها، أ كَان يَجُب أَن أقِف فَقط ؟.
دَحرجتُ مِن بصيرتِي وعَقدتُ ذراعيَّ لصَدرِي بينمَا أُذنِي حَجبت صَوت ثَرثرةِ المُدير حِيَال مَا حَدث مَع كذباتٍ وَاضحة تَجعلُنِي المُلَام الوحِيد حِينَ شَارك الأشقَرُ مُدافعًا عَن نَفسه : « لَقد كُنتُ أتحدَّثُ مَعهُ .. ».
لِماذا يَحبُذ المَرءُ دَور الضحِية ؟ ذَلك مُثيرٌ للشَفقةِ والسُخرِية، لَستُ أحبُذ الدوَر إِن قُدِّم
لِي.
لكِّن؛ الدورُ الذِّي يُعطى لِي، سأُتقنهُ وإن كَان ذَلك
يعنِي ظُلمِي، فِي النهاية .. كُل شخصٍ سَيُسقى بمَا إفتَعلهُ.
« أُورِين .. ».
أردَفَ المُديرُ يقَطع شرُودِي ويَجعلُنِي ألحَظُ
نَظرةً تُلقى مِن مَن يقبعُونَ أمَامِي، رَمقتهُ فِي هدُوءٍ ليَردِفَ بسكُون : « أَ لَن تنطِقَ بِشيء ؟ ».
« لِمَاذا قَد أفعَل فِي حِينِ أنكُم إتخذتُم
قرارًا سخِيفًا دُونَ مُحاولةِ رؤيةِ حقِيقة مَا
حَدث ؟ أنَا المُخطئُ وهُو الضحِية .. ».
تَلاشى صَوتِي عِندمَا رَمقتُ وَالدِي يُحدجنِي
بإزدرَاءٍ لكِّنني وللمرةِ الأُولى لَم أكترِث لمَا قَد
يخرُج مِنهُ .. أنَا مُتعب، ليَفعل مَا يُريدهُ بِي.
انسَابت طرقَاتُ البَابِ تلفِتُ إنتبَاهِي كَ حَال الجمِيع فَ إستَدرتُ برَأسِي للخَلفِ وجحظتُ مِقلتيَّ بإستغرَابٍ ليجُول فكرِي سؤالٌ وَاحد؛
مَا الذِّي يَفعلهُ أركتُوروس هُنَا ؟.
« عُذرًا عَلى المُقاطعةِ يَا سَيِّدِي
لكِّننِي رأيتُ مَا حَدث عِندمَا تَشاجر
كُل مِن أُورين .. وهَذهِ البِطة ! ».
كَبحتُ ضحكتِي حِينَ نعتَ الأشقَر
بالبِطة، ولكِّن .. أركتُوروس لَم يكُن
موجودًا فَ كَيف لَهُ أَن ينطِقَ
بالكَذِب ؟.
« البَطة .. ».
نَطق أركتُوروس ليَقطع صَوتهُ
المُدير : « يُدعى نِيُو ! ».
هَذا الفَتى .. حقًا شيءٌ مَا.
صَمت أركتُوروس لبِضع ثوانٍ ثُم بَعثر شَعرهُ
بخفةٍ قَبل أَن يردِف : « حسنًا، ليكُن .. نِيُو بَدأ فِي الحَديث بكلمَاتٍ سيئة مَع أُورِين مِن دُون سببٍ وَاضح وأخبرنِي أنتَ يَا سيدِي، أ سَتصمتُ لمَن يشتمُكَ وتستقبِلهُ بوجهٍ مُبتسم ؟ بالطبعِ لَا ! لِذَلك أُورِين لَم يَستطع البقَاء صامتًا وألقى بتهديدٍ بسيط حتَّى يُبعد هذَهِ البَطةِ مِن طرِيقه لكِّنهُ أصرَّ عَلى الشجار وبَدأ اللكمَة الأُولى وأخبرنِي مُجددًا يَا سَيدي، أ سَتدعُ بَطةً حمقَاء تلكُمكَ وترحَل مِن دُون رَد ؟ بالطبعِ لَا ! لِذَلك أعَاد أُورِين مَا فعلهُ لهُ لكِّن البَطة غَضبت وبدَأت فِي ضربهِ مِرارًا وتكرارًا وأعتقِدُ أنَّ وَجههُ كفِيلٌ بأن يُريكَ الحقِيقة .. والآن أخبرنِي يَا سيديِ هَل ستترُك شخصًا يَشبهُ البَطة بضربِكَ دُون توَقف ؟ بالتأكِيد لَا !! لِذَلك لَم يترُك أُورين وَجههُ ولَكمهُ كمَا فّعل مَعهُ، وبالطبعِ يَا سَيدي أنتَ لّا تعرفُ أنَّ هَذهِ البَطةُ هُو شخصٌ مُتنمرٌ فِي هَذهِ المَدرسةِ ومَاذَا يعنِي ذَلك ؟ سأشرَح لكَ حتَّى تَفهم، لَن يَأتيكَ أيُّ شَخصٍ وَيشرح لَك مَا حَدث فَ هَذهِ البَطةُ الوَغدةُ ستتنمَّر عَليهِ طِيَال حَياته ! والآن أخبرنِي يَا سيِّدي .. مَن المُخطِئ ؟ هَل يجُب عَلى أُورين الإعتذَار لهَذهِ البَطة ؟ ».
دُهشتُ مِن سُرعةِ حَديثهِ التِّي لَم تترُك فُرصةً للمُدير وغَيرهِ بإيقَافهِ أو مُجابهتهِ والإعترَاضِ عَلى مَا يُقَال مِنهُ ..
لَمحتِ تعابِير الصدمَةِ عَلى مَن يجلسُون فَ وجدتُ مِن وَالدِي مذهُولًا كَأنهُ لَم يتوقَع ذَلك.
« هَذا كَذب ! إنهُ يَكذب !! ».
صُراخُ الأشقَرِ قَطع دهشَةٌ إندثرَت فِي وَجههِم فَ بَدى إنفعَالهُ غريبًا كَ من قُبض عَليه مُتلبسًا، تَجاهلتُ النِقاش الذِّي بَدأ بَين الجمِيع مِن رغبةٍ فِي رؤيةِ كَاميرَات المُراقبةِ وشهَادةِ الطُّلَاب أو مَا شَابه ..
رَمقتُ أركتِوروس الذِّي وَاجهنِي بإبتسَامةٍ جانبِية جَعلتنِي أكبحُ خَاصتِي، هُو حتمًا صدِيقٌ رَائعٌ.
…
خَرجتُ بصُحبةِ أركتُورس مِن غُرفةِ المُدير ثُم ألقَيتُ تنهيدةً عمِيقة أطرُدُ بهَا ثَقل كَاهلِي، لَقد إتخذُوا قرارًا بـ فَصلِ كلينَا لمُدةِ ثلَاثةِ أيامٍ وتنظِيف البَاحةِ الخَارجِية لشهرٍ كَامِل .. وبالطَّبع، لَم يكُن الأشقرُ خَارج ذَلك.
رُغمَ رَغبتِي فِي رفضِ مَا قِيل إلَّا أنَّ أركتُوروس أوقَفنِي مُتمتمًا : « ذَلك أفضَل مِن مُعاقبتكَ
لوحدِك ظُلمًا ! ».
وحسنًا، هذَا نوعًا مَا جَيد.
نَفضتُ فكرِي عَن كُل شيءٍ وَتابعتُ
سَيرِي بجوَارِ صدِيقي .. صدِيقي أركتُوروس.
لينسَاب سؤالِي فِي بعضٍ مِن الحِيرة : « كَيفَ علِمتَ بمَا حَدث ؟ ».
حَشرَ يدَيهُ فِي جُيوبِ بِنطالهِ يُجيبنِي : « لَقد هَددتُ بعضَ الطُّلَابِ الذِّينَ إتخذُوا مِن الصمتِ مكانًا لهُم .. ولَقد أخبرُونِي بحقِيقة مَا حَدث ! ».
كَان يتحدَّث بملَامحٍ تَدُل عَلى عَدمِ إكترَاثهُ لمَا فَعلهُ فَ ذُهلتُ قليلًا حِيَال ذَلك لأننِي لَم أتوَّقع بتاتًا وجُودَ مَن سيُحاوِل الوقُوفَ فِي صفِّي ..
لكِّن، أَن يكُونَ هُنَاك
شخصٌ وَاحد، وَاحدٌ
فَقط.
ذَلك يكفِي بالفِعل،
لأنهُ يُغنِي عَن الجمِيع.
توَقفتُ فِي بُقعتِي أخرُج مِن فكرِي حِينَ تَسللَ صوتُ البَطةِ الذِّي لَفحهُ بعضُ الصخبِ والغَضب.
لالتفِتُ لهُ بإبتسَامةٍ سَاخرة عندمَا أردفَ بإزدرَاءٍ
وَاضح : « أنتَ .. وهذَا الوغِدُ حثَالة .. ».
« لَستُ مُتفرغًا لسمَاع تُراهتِكَ يَا بَطة، لنَذهب أركتُوروس ! ».
بنَبرةٍ جَامدة لفحهَا التهكُّم قَاطعتُ حرُوفهُ ثُمَّ طبعتُ خُطواتِي ليتَبعنِي الآخرُ بغَيرِ إكترَاثٍ للكُتلةِ الغرِيبة خلفنَا ..
وأشير بِذَلك إلَى البَطةِ الغَاضبة.