-حِينَ إلتَقيتُكَ لَم أعتَقِد أنكَ ستكُونُ صَديقًا لرُوحِي.

[ لِقيَاه ]

صَوتُ قَطرَاتِ المَطرِ يَتدفقُ مِن الغيُومِ السودَاءِ مُلتصقًا عَلى زُجاجِ نَافذتِي الكَبيرة لِتنسَدِل ستَائرٌ عَاتِمة تَحجِبُ برقًا صُحِب بصَوتِ الرعدِ الذِّي تَركَ مِن تَردُدَاتِهِ يَتسربِ فِي أرجَاءِ المكَانِ حتَّى تَسللَ لِسَمعِي .. يُفِيقُنِي مِن غيَابي عَن الوَاقع دَاخل فِكرٍ يَأبَى الصَّمت.

حَيثُ تكمُنُ أحَاديثٌ صُحبَت

بالقُسوةِ والذُبول، دُونَ إكترَاثَ

لذَاتِي البَائسة التِّي تَضررت إثرَ

ذَلك.

أنَا يَائسٌ محكُومٌ بالفِكرِ الكَامِد.

نَفضتُ مَا جَالَ فِي رَأسِي مِن كلمَاتٍ لَا يكُون لهَا نِهايةٌ حتمًا، حَملتُ جَسدِي الثقِيلَ مِن السرِير ثُم إرتَديتُ حَقيبتِي السودَاء مُتجَاهِلاً النظَر لِذَاتِي عِبرَ المِرآةِ.

أبغُضُ رؤيتِي .. لأننِي أكرهُ نَفسِي.

لكِّننِي أيضًا، حَزينٌ عَلى حَالِي التِّي

أوصَلتُهَا إلَى بُقاعِ الاستسلَامِ حتَّى

بَات الحُزنُ أسيراً لِي.

ألقَيتُ تنهِيدتِي التِّي أُحاوِل بهَا طَرد ثَقل جَوفِي قَبل أَن أترُك مِن خُطواتِي تَأخُذنِي إلَى الخَارِج.

وَجدتُ مِن الهدُوءِ يَكتسِحُ المَنزِلَ فَ تملكَّتنِي وِحشةٌ لَم تَزل عَن خَافقِي يومًا مُنذُ رحِيلهَا ..

حَيثُ بَاتَ الهَجرُ يَسكُن

جَوفِي، كَأنهَا سَلبت مَا فِي

دَاخلِي ورَحلت مَعهُ.

حَاولتُ نَفض رَأسِي مِن حَديثِ ذِهنِي الذِّي سيُلقِيني مُجددًا فِي بُقعةٍ تجعلُنِي أسقُط عَلى رُكبتيَّ تعبًا مِن مرَارةِ الوّاقعِ الذِّي أعِيشهُ، تَابعتُ سَيرِي ليَستوقِفُنِي صَوتٌ يَترُك مِن شعُورٍ غرِيب دَاخِلي ..

« أُورِين .. »

رَفعتُ حَدقتيَّ تِجاه وَالدِي حِينَ أنبَس كَاسرًا صَمتًا يَعِيشُ بيننَا ليُتَابِع : « سَيأتِي ابنُ صَدِيقِي مِن الرِّيف ويَمكُث معنَا لِفترةٍ حتَّى يُنهِي دِراستهُ هُنَا .. ».

ضَيفٌ جَديد فِي منزِلنَا المَهجُور ؟ ذَلك لَم يُعجبنِي لكِّننِي هَززتُ رَأسِي بتفهُّمٍ لتَتدحرَج حَدقتيَّ الدَّاكِنة إلَى الفرَاغِ أستَمِعُ لحَدِيثه : « أنتُمَا فِي العَامِ ذَاتهِ، لِذَلك إعتَنِي بهِ جيدًا ! ».

لَا مُجادَلةَ فِي مَا يُقَال، وإِن فَعلت سَيُصُيبنَا شِجارٌ يَأبَى الإنقشَاع، يَشبهُ مَا بيننَا مِن غُربةٍ إستوطَنتنَا بعَد رحِيل أُمِّي ..

لَو عَاد الزمَانُ ولَم تَرحل، لكَان الأمَانُ والدِفئ يُسكَب فِي الأرجَاء حتَّى يكُون المَنزل، منزلًا ..

أومَأتُ برَأسِي مُجددًا قَبل أَن أُعدِّل حَقِيبةَ ظَهرِي وأَطبع خُطواتِي إِلى الخَارِج نَاحِيةَ السيَّارة، وَجدتُ مِن السَّائِق يُغطِي جِذعِي مِن المَطرِ بالمظَلةِ ثُم يَفتح لِي البَاب حتَّى تَركتُ مِن جَسدي يتخِّذُ مكَانهُ فِي الدَّاخِل لأُرِيح رَأسِي عَلى المِقعدِ بغَيرِ إكترَاثٍ وجوفٍ فَارِغ.

تَسلل صَوتُ مُحركَّاتِ السيَارةِ لِي فَ دَحرَجتُ

بَصِيرتي حتَّى تلتَقِطُ مَا يَقبعُ خَلف النَّافِذة مِن

حيَاةٍ يعِيشُهَا أُنَاسٌ لَا يشبهُونَنِي ..

أنَا مُجردُ كَئِيبٍ لَا يَسعى لِشيء، بَائسٌ

وَوحيد، وَخِيبةٌ لَم يَكُن عَليهَا أَن تُولد.

غَطَّيتُ أُذنِي بسمَاعَاتٍ لَم تُصدر صوتًا يَصُّد عنِّي أحَادِيثًا سَاخِرة تَتسَلل مِن من يَرمقُوننِي بأعُينهم.

فِي جُهلٍ عَن مَا فَعلتهُ، وَجدتُ مِن ذَاتِي تستوقِفُ سَيرهَا وتحدِّجُ طَاوِلتِي دَاخِل الصَّفِ بهدُوءٍ يُناقِض مَا يَلفحُ خَافقِي.

طَبع الحِبرُ كلمَاتًا لَاذِعة صُحِبت برسُومٍ سَاخرة، حرُوفًا تَصِيغُ مَا قَد يؤذِينِي وقَد تمكَّنُوا مِن ذَلك حِينَ حَادثتُ نَفسِي بالإنكَار عَن مَا يُقَال.

لَستُ مُدللًا ثَرِي، وَلستُ قبيحًا،

أنَا .. لَا أستحِّقُ المَوتَ كمَا قِيل

مِنهُم.

وإِن كَان الكُرهُ لذَاتِي طريقًا لِي،

إلَّا أننِي لَستُ كمَا يُكتَب ويُقَال.

لكِّن، كَ عَادةِ البَشر، يُلقونَ بأحَادِيثهم

مُتجاهلِينَ مَا قَد يُسكَب مِن ألمٍ فِي

جوفٍ مُهشَّم ، فِي حِين أنهُم يَعتقدُونَهَا

عَابِرة بَقِيتَ نَدبةً فِي قَلبٍ مَخذُول ..

جِراحٌ حَاولتُ ترمِيمهَا لكِّنهَا أبَت تَرك خَافقِي الهَزيلَ وَسكبت ألمهَا فِي بُقاعهِ حتَّى خلَّف مَا يُدفنُ دَاخِل ذهنِي مِن كلماتٍ قَاسِية.

قَبضتُ عَلى يَدِي قَبل أَن أجلِسُ بجمُودٍ يَشبهُنِي.

ثُم جَالت حَدقتيَّ الأرجَاء حتَّى رَمقتُهم يُحدجُوننِي برِيبةٍ ومَقتٍ كَان سَببهَا غَيرُ مَعرُوف.

مَا الذِّي إقترَفتهُ حتَّى أُصبِحَ مَنبُوذًا لَا يَحبُذ قُربهُ أحَد ؟ هَل كَان خَطأً مجهُولًا ؟ أَم مُجرد سخَافاتٍ تسرِي فِي عُقولِ البَشرِ الفَارِغة ؟ فَ أنَا بِتُّ دَاخِل حِيرةٍ لَا أجِدُ مَخرجِي مِنهَا.

كَأننِي .. فِي مكانٍ لَا أنتمِي إلَيه.

غريبٌ أنَا والغُربةُ موَطنِي، لكِّننِي

أبحثُ عَن شبِيهٍ يَألفهُ فؤَادِي.

ذَلكَ التنَاقُض المُزعِج، يَجعلُنِي

فِي دوَامةٍ مقِيتة, تَمنيتُ محيَها

مِن ذَاكرتِي.

أخرَجتُ مِن حقِيبتِي مندِيلًا قَبل أَن أترُك مِن مَاء قنِينةِ الشُّربِ يَلمِسُ نسيجهَا حتَّى بَدأت مُحاولَاتِي فِي مَحي مَا أمَامِي ..

إن مَسحتُهَا قَد تَختفِي مِن ذهنِي.

لكِّننِي كَ العَادة فَقط، فَاشِلٌ يُلقِي مَا بِيديهِ ويُعِيد تحدِيجَ مَا كُتِبَ ببرُودٍ يَكتسِحُ وَجههُ، كَان نَقيضًا لخَافقِي الذِّي ينقبِضُ بإنزعَاجٍ لَم يُعجبنِي.

لأننِي لَستُ كذَلك .. لَستُ كمَا يُكتَب ويُقَال.

مُحاولَاتِي فِي الإنكَارِ

عَبث، ولَم يكُن هُنَاك

جَدوى مِن ذَلك.

كَبحتُ غَيضِي ومَا يجتَاحُنِي مِن مشَاعرٍ بغِيضة لأضَعَ برَأسِي عَلى الطَّاوِلةِ فِي مُحاولةٍ للغرَقِ كَ العَادةِ دَاخِل قَوقعةٍ تُدعى بالنَّوم.

كَأنهَا المَهربُ الوَحِيدُ مِن وَاقعِي البَائِس.

« أورِين ! ».

تَسللَ صَوتُ مُعلم الصفِّ يَنتشِلُنِي مِن بُقعةٍ وَحيدة دَاخِل فِكرِي فَ وجدتُ مِن جِفنيَّ يُفتحَانِ قليلًا قَبل أَن أستقِيمَ وأحدِّقفِي الفرَاغِ أثنَاء سمَاعِي لثرثَرةٍ تَخرُج مِنهُ : « لَقد كَررتُ حَدِيثي كَثيرًا لكِّنكَ تَبقى نَائمًا دُونَ سَببٍ وَاضح طِيَال الدرس .. ».

يُثرثر، ويُثرثر، ثُم يُثرثر.

« هَذا مُزعِج .. ».

كلِمَتَانِ خَرجت مِن فَاهِي دُون قَصدٍ لكِّن اللَّامُبَالاةَ حِيَال العَوَاقِب التِّي قَد تَزُورنِي كَانت مَلبثًا لِي .. كَأنَّ مَا فِي جَوفِي يَرغبُ فِيإفتعَال مُشكلةٍ تَجعلُ مِن شعُورهِ يَستَيقِظ ويعُود للحَياةِ مُجددًا.

رَفعتُ حَدقتيَّ صَوبَ المُعلِّم الذِّي أردَف بغَيرِ تَصدِيق

: « مَا الذِّي قُلته ؟ كَرر مَا قُلتهُ مُجددًا يَا أُورِين ! ».

إرتفَع طرَفُ شِفتي سُخريةً مِنهُ فَ

وَجدتُنِي أُخرج حّدِيثي بنبرةَ خَالطهَا

تهكُّمٌ لَم يُعجبنِي : « ثَرثرتُك .. إنهَا

مُزعجة ».

ذَلِك خَطأ، لكِّننِي أتصرفُ بطرِيقةٍ غرِيبة، مُنذُ أَن تغيَّر كُل شَيء فِي حيَاتِي لَم تَعُد رُوحِي موجودةً فِي جوفِي فَ بِتُّ مُبهمًا لَاأفهمُ نفسِي.

لكِّنهُ لَيس عُذرًا، لأننِي لَم

أُحاوِل إصلَاحِ نفسِي يومًا.

تَجاهلتُ ترقُّب الطُّلَاب لمَا يَحصُل وأغلَقتُ ستَائر عَينيَّ بإستيَاءٍ حِينَ صَرخ المُعلِّم فِي وَجهِي مُشيرًا بيَدهِ نَاحيةَ الخَارج : « إلَى المُدير حالًا يَا أُورِين ! ».

دَفعتُ طَاولتِي وكُرسيِّ مِن الخَلفِ لأستقِيمَ بجذعِي وأقِفَ مُحدقًا فِي عَينيهِ دُون إكترَاثٍ يُناقِض غَضبًا ينسَابُ مِنهُ كَان حَدِيثيسببًا لهُ، حَشرتُ يَداي فِي جيُوب بِنطَالِي قَبل أَن أسِير إلَى خَارج الصفِّ وَوُجهتِي سَطحُ المَدرسة ..

لَم أفهَم حتَّى الآن لِمَاذَا قَد يعتقِد المُعلِّم أنَّ الطَّالِبَ سَيُطِيعُ أمَرهُ فِي مَا قَد لَا يُعجبهُ، أعنِي .. مَن سَيذهبُ إلَى المُديرِويُخبرهُ أنَّهُ طُردَ مِن الصفِ ثُم يَنَال عِقابًا لَن يُناسب مَزاجهُ ؟ بالتأكِّيد لَا أحَد.

رَنينُ الجَرسِ أفَاقنِي مِن غيَابِي عَن الوَاقِع أثنَاء تَحدِّيجي لغيُومِ السمَاءِ فِي ضياعٍ لَم أجِد مِنهُ مخرجًا حتَّى الآن ..

وَقفتُ أحمِل حَقيبتِي التِّي أخرجتُهّا مِن الصفِّ

بعَد رحِيل المُعلِّم ثُم تَجاهلتِ مَا حولِي وخَرجتُ مِن المَدرسة فِي رغبةٍ للعَودةِ إلَى المَنزِل، رُغمَ الكُرهِ الذِّي يَحملهُ بَاطنِيتِجاه البقَاءِ هُنَاك إلَّا أنَّهَا أفضَلُ مِن أيِّ مكَانٍ آخر .. حَيثُ أكُون وَحدِي دُون آخرٍ بجِوارِي.

لَمحتُ السَّائِقَ يَنتظِرُنِي فَ رَسمتُ سَيرِي صَوب السيَّارةِ ليَفتحَ لِي البَاب كَ العَادةِ ثُمَّ يَترُكنِي أدلِفُ وحيدًا وهُو فِي المُقدمةِيَقُود بهدُوءٍ يَشبهُنَا ..

كَأننَا سُكَّانُ الصمتِ لَا نعرِفُ الحَدِيث.

أرحتُ رَأسِي عَلى المِقعدِ مِن خَلفِي لتُعلَّق حَدقتيَّ فِي مَا يَقبعُ خارج النَّافِذة مِن صخِيبٍ وحيَاةٍ لَم تَزُر بُقعتِي بعَد رَحِيل وَالدتِي ..

لِماذا لَا يعُود المَاضِي لينتشِلنَا مِن بُقَاع

الحَاضر والمُستقبَل المَجهول ؟ أنَا لَستُ

حابذًا للبقَاءِ دُونَ وجودِهَا جَانبِي، الوِحدةُ

تلبستنِي وقيَّدتنِي فِي سجنِهَا البَائِس حتَّى

بِتُ وحيدًا لَا يجِدُ مَن يُجاورُ مَسكنهُ الفَارِغ.

أ لَا يُمكننِي البَقاءُ فِي المَاضِي وعَيشُ

اللحظَاتِ ذَاتهَا مئاتَ المَرات ؟ فَ أنَا

مُتيقنٌ أننِي لَن أضجَر.

كَان الجُهلُ لنِعمةِ وجُودهَا جَانبِي طرِيقي حتَّى فقدتُهَا، أ يُمكننِي العَودةُ وتقديرَ مَا كَان يُغنِيني عَن العَالمِ بَأكمَلهِ ؟.

لِماذا .. لَا نشعُر بالقِيمةِ حتَّى تَرحل ؟ أ تِلكَ طبِيعتُنَا أَم سخفٌ لعقُولنَا التِّي تُفكر برغباتٍ لَم نحصُل عليهَا ؟.

يَا للسُخرِية، لَا يُمكننِي الكَفُّ عَن التفكِير حِيَال مَا مَضى .. وَلن يعُود رُغمًا عَن بُكائِي وأُمنياتِي التِّي تُردد فِي كُل ليلةٍ حَزينة.

زَفرتُ نفسًا خفيفًا أُحاوِل بهِ إستعَادةَ ثبَاتِي

حِينَ توقفِ السيَّارة، خَرجتُ دُون إنتظَارٍ للسًَائِق وتركتُ البَابَ مفتُوحًا خَلفِي ثُم مَشيتُ إلَى دَاخِل المَنزلِ رغبةً فِي الغَرقِدَاخِل نومٍ يسحبُنِي مِن ألمِ الوَاقِع ..

توّّقفتُ فِي مكَانِي عندمَا تَسللت

أصواتٌ صَاخبة تُناقِضُ هدُوء المَنزِل.

مَا الذِّي يَحدُث هُنَا ؟

لِمَاذَا الضحكَاتُ والأصوَاتُ العَالِية تزُور

المَنزلَ وتَبعثُ شُعورًا مُزعجًا لجَوفِي ؟.

أ كَان إعتيَادِي عَلى السكُون سببًا أَم الغُربة التِّي تعِيشُ فِي خَافقِي تَجعلُ مِن ذكريَاتِ المَاضِي تعُود حِينَ يُبعثُ نقِيضُ الهدُوءِهُنَا ؟ فَ أنَا فِي حيرةٍ لَا أفهَمُ بهَا مَا يجتَاحُنِي.

قَبضتُ عَلى يَدِي قَبل أَن أترُك مِن فضُولِي يَدفُعنِي لرؤيةِ مَصدر الصّوتِ فَ وَجدتُنِي أقِفُ فِي بقعتِي وأحدِّق بضيَاعٍ تِجاه وَالدِي الذِّي يُلقِي بضحكَاتهُ حتَّى إرتفَعت يَدهُ تُغطِي ثَغرهِ المُبتسم ..

كَان غريبًا، غَير إعتيَادِي، أَن

أرَاهُ يَضحك بَعد مَوت وَالدتِي.

دَحرجتُ حَدقتيَّ نَاحيةَ الفَتى الذِّي قَابل

وَالدِي فِي الجلُوسِ لتَتسلل عُقدةٌ صغِيرة

وَسط حَاجبيَّ بإستغرَابٍ مِنهُ ..

شعرٌ دَاكنٌ مُجعدٌ يُغطِي عَينيهُ وابتسَامةٌ كَبيرةٌ لَم تترُك شِفتيهُ بينمَا ذوقهُ فِي الملَابسِ كَان غريبًا حَيثُ يَرتدِي قميصًا أخضرًا وبِنطالاً فضفاضًا بُنِّي اللّّون ..

يُلقِي بأحَاديثهِ الصَّاخِبة ويَترُك مِن ضحكَاتهِ تخرُج دُون إكترَاثٍ لأيِّ شيءٍ آخر.

لَم يَلحظ وجُودِي أحدٌ فِي البِداية فَ إستَدرتُ للرحِيل لكِّننِي توقفتُ مكَانِي حِينَ إلتَفت وَالدِي لِي يُطَالعنِي بعَد محيهِلضحكَاته، سُكب فِي دَاخلِي بعضُ التوترُ عندمَا تلفَّظ يُحادِثُ الفَتى : « هذَا إبنِي، أُورِين .. ».

حَدجنِّي الفَتى قلِيلًا قَبل أَن يعتدِل بوقُوفهِ مِن مجلسهِ ويرسُم مَسارهُ نَحوِي بإبتسَامةَ عرِيضة، جمِيلة ولَطِيفة، لكِّنهَا سَكب فِي جوفِي ريبةً مِنهُ.

أبعدَ خُصلَات شَعرهُ المُجعَّدة عَن عَينيهُ ليَردِفَ بنبرةٍ تخللَا بَعضُ البَهجةِ الصَّادِقة التِّي لَم أستشعِر زيفهَا : « مرحبًا أُورين ! أنَا أركتُوروس ».

أركتُوروس .. أَ لَيسَ ذَلك نجمًا فِي السمَاء ؟ لكِّن أَن يكُون اسمهُ فَ هُو نوعًا مَا غرِيب، يَشبهُ غرَابةَ إختيَارهِ لملَابسهِ التِّي تَجعلُنِي أتذكَّر شخصياتَ الرسُومِ المُتحرِكة.

حَاولتُ تَجاهُل ابتسَامتهُ المُشرِقة التِّي جَعلتنِي أشعُر ببعضٍ مِن الإرتبَاكِ وقليلًا مِن الخَوفِ دُونَ سَببٍ وَاضح.

« لنُصبِح أصدقَاء ».

كَلمتَينِ خَرجت مِنهُ وَجعلت مِن مِقلتيَّ تَخرُج حتَّى جُحظت ليَنسَاب فِي جوفِي رفضٌ رغبتُ فِي خرُوجهِ عِبرَ صَوتِي.

أصدقَاء ؟ لَا، لَا أُريدُ ذَلك، بَل لَا أرغَبُ

فِي وجُودِي صدِيقٍ غرِيبٍ يُجاورنِي ..

رَمقتُ وَالدِي حَيثُ كَان يُطالعنِي بهدُوءٍ فَ قَضمتُ وَجنتِي دَاخليًا بأسنَانِي إرتباكًا مِن خرُوجِ إجَابةٍ مِنِّي قَد تَسكُب إزعاجًا يُخلِّفُ بعضَ المشَاكِل الغَيرِ مرغُوبةٍ بيننَا ..

إبتَلعتُ لُعابِي أُبلل رِيقِي الجَّاف قَبل أَن أهُز رَأسِي بإيمَاءةٍ خفِيفةٍ جَعلت مِن صَوتهِ يخرُج بسعَادةٍ ولَهفة : « حقًا ؟ أنَا سعِيدٌ لِذَلك ! أنتَ صديقِي الأوَّل هُنَا وذَلك رَائع .. شُكرًا لكَ أُورِين ! ».

شَعرتُ بيَدِي تُسلَبُ مِن جانبِ جِذعِي وتقيَّد بخَاصتهِ فِي مُصافحةٍ قوِية بينمَا صوتهُ الصَّاخبُ بَاتَ يخترِقُ سمعِي بقُوةٍ أزعجَتنِي.

إنهُ يُوترنِي بأفعَالهِ الغَرِيبة .. أنَا لَستُ صديقًا لهُ لمُجردِ أن طَلب مِنِّي ذَلك ! لكِّننِي فّقط .. لَم أستَطِع قَول لَا.

لَفتَنِي مِن فكرِي صَوتُ أبِي يُحادثنِي : « هَذا هُو إبنُ صدِيقي مِن الرِيف يَا أورِين، سَيعِيشُ معنَا حتَّى يُنهِي آخرَ مَرحلةٍ دِراسية لَهُ .. أتمنَى أنَ تعتنِي بهِ جيدًا ! ».

هَذا هُو إذًا .. يَبدُو أنَّ شيئًا مَا سيُعِيق سَير حَياتِي الآن، فَ لَا طَاقة لِي للإعتنَاءِ بذَاتِي ويُريدنِي وَالدِي أَن أنتَبهِ لهذَا الضخَّم ؟ذَلك حتمًا سَيكُون مُرهقًا.

آهٍ تخرُج مِن ثغرِي خفيةً عَن مَسامعهم فَ يبدُو لِي أنَّ هذَا العَام سيكُون طوِيلًا ومُزعجًا للغَاية.