-كُل شَيء كَان مُقرفًا ومُثيرًا للإشمئزَاز.
[ مُحاوَلة ]
حَشرتُ عُلبةَ المَرهَمِ فِي حَقيبتِي قَبل أَن أرتَدِيهَا وأطبَع خُطواتِي إلَى خَارج المَدرسة بجوَار مُحاولةِ تَجاهُلِ أبصَارِ الطُّلَاب وهمسَاتهِم الخَافِتة .. لَستُ مُكترثًا، حتَّى وإن أنكَرتُ مَا قِيل، لَا أُبَالِي بمَا قَد يجُول فِكرهُم بعَد مَا حَصل.
لكِّنني قَلقٌ دُونَ سَببٍ وَاضح، بَل ظَاهرٌ وأنَا مَن أُقاوِم جاهدًا فِي دَفنهِ ومَحيهِ عَن ذهنِي.
زَفرتُ أنفَاسِي بخفُوتٍ حِينَ لَمحتِ السَّائِق يَنتظرُ فِي الزَّاوِيةِ المُعتَادة فَ طَبعتُ مِن خُطواتِي إلَيهِ لتستوقِفنِي كلِمَاتهُ : « سيِّد أُورِين، وَالدُكَ أخبرَنِي بعَدم إصطحَابكَ مُنذ اليَومِ حتَّى تُعِيد التفكِّير حِيَال تصرُفَاتك .. ».
إرتفَع طَرفُ شِفتي بتهكُّمَ بينمَا حَدقتيَّ تدحرَجت بعيدًا تَرمُق الفرَاغ بفكرٍ يَأبَى الصَمت.
أُعِيد التفكِير حِيَال تصرُفَاتِي .. لِماذا ؟.
لَم أفعَل شيئًا خَاطئًا .. حتَّى الدِفاع عَن
نَفسِي ذَنبٌ لَا يُغفر ؟.
« أنَا أعتذِرُ سيِّد أُورِين .. ».
« لَم تَفعل شيئًا حتَّى تعتذِر .. ».
إستوقَفتهُ عَن الإعتذَارِ حِينَ ألقَى بكلمَاتهِ لسَمعِي فَ وَجدتهُ يبتسِم لِي ببعضٍ مِن الأسَفِ الذِّي لَم يُعجبنِي.
حتَّى السَّائِقُ حزينٌ عَلى حَالِي فَ لِمَا وَالدِي لَا يكترِث لِي ؟.
« لتَذهب، سأعُود سيرًا إلَى المَنزِل ».
« أنَا أنتظِرُ السيِّد أركتُوروس ».
أردَف السَّائِقُ يَجعلُ مِن حَدِيث ذهنِي يَسخرُ مِن كُل شَيءٍ يَحدُث حَولِي فَ كَبحتُ ضحكتِي حتَّى لَا تَخرُج مِنِّي.
إستيَاءٌ وإحبَاط، مَشاعرٌ تندثِرُ فِي جوفِي المُهشَّم.
قَبضتُ عَلى يَدِي ثُم طَبعتُ خُطواتِي بهُدوءٍ دُونَ رغبةٍ للعَودةِ إلَى المَنزِل، تَسلل صَوتٌ صَاخِبٌ لِي يَسألُنِي : « أُورِين ! أ لَن تَأتِي ؟ ».
رَفعتُ بيدِي مُلوحًا بالنفِّي ثُم سِرتُ
وحيدًا لطرِيقٍ خَالٍ يَشبهُ فرَاغًا يَلفحُ
خَافقِي.
إستوقَفتُ سَيرِي حِينَ انسَاب لجوفِي شعورٌ بمجِيءِ أحدهُم فَ التفتُ لأجِدَ مِن أركتُوروس يَركُض نَحوِي مُردفًا : « أنتَ تَشبهُ السُلحفَاةَ فِي خُطواتكَ يَا أُورِين .. ».
أصَابتنِي الحِيرةُ لوجُودهِ هُنَا، لِمَاذَا لَم
يَذهب مَع السَّائِق ومَضى نَحوِي ؟ هَل
هُنَاك سَببٌ يَدفعهُ لفعلِ ذَلك ؟.
حدَّجتهُ وقَد بَان عَلى وَجهِي إستغرَابِي فَ أجَابنِي حِينَ طَال الصمتُ بيننَا : « المَجيءُ مَعك .. أفضلُ مِن البقَاءِ مَع ذَلك العجُوز اللطِيف ! ».
هَذ الفَتى .. حتمًا غَريبُ أطوَار.
« مَن يَحبُذ السيرَ عَلى الأقدَام ؟ ».
تَمتمتُ فِي خفُوتٍ لكِّنهُ إلتَقطَ ذَلك وجَابهنِي : « أنَا أحبُذ ذَلك ! الغَبي وَحدهُ مَن لَا يُحب السيرَ عَلى الأقدَام .. ».
« أنَا لَا أحبُذ ذَلك ».
رَفعتُ مِن حَاجبيِّ وَواجهتهُ بمَا اجتَاح فكرِي مِن إجَابةٍ لمَا قِيل مِن قِبله فَ وَجدتهُ يَضحك بإرتبَاكٍ طفِيف ثُم يردِف : « أنتَ لَست غبيًا لكِّنك لَم تُجرب مُتعةَ السَير أُورِين ! ثِق بِي .. ».
تَجاهلتُ بقَايَا حَديثهُ وعُدت للسيرِ حتَّى لَحقنِي وإلتهمَ الصمتُ حرُوفهُ فَ بِتنَا فِي سكُونٍ وهدُوء.
هُو يَستطِيعُ أَن يُغلقَ ثغرهُ ويتوَقف عَن الكلَام إذًا ؟ هذَا أمرٌ جَيد.
زَار فِكرِي وَالدِي ليُغرقنِي فِي بحرِ ذهنِي مُجددًا.
فِي تسَاؤولٍ عمَّا سَيُصببنِي حِينَ أعُود للمَنزلِ وأُقَابلهُ .. مَا الذِّي سيفعلهُ ويَقُولهُ عندمَا يرَانِي مُجددًا ؟، أ سَيُسمعنِي حَديثًا قَاسيًا يُهشِّم قَلبِي وصفعةً تُصمتُ ثغرِي عَن المُحاولةِ فِي التبرِير أم سَيدعُنِي أمضِي دُونَ جرِاحٍ تُمزِّق ندُوبًا لَم يكُن الشِفَاءُ طريقًا لهَا ؟.
إن كَانت أُمِّي مَوجودة .. أ كَان مَا سَيخرُج مِنهُ مختلفًا لَا يَشبهُ حَالهُ الآن ؟ لكِّن لِماذا ؟ لِماذَا
بَات قَاسيًا بعَد رحِيلهَا عَلى ابنهِ الوَحِيد ؟.
أنَا الجُزءُ الأخيرُ المُتبقِي مِنهَا، فَ لِمَاذَا لَا يُعانِقُ حُزنِي ويُرمم جِراحي ؟ ألَم يَكُن عَليهِ أن يرسُم مِن الحنيةِ طريقًا لهُ ؟ فَ الآبَاءُ هُم مَوطنُ الأبنَاء .. لكِّننِي مُشردٌ لَا مَأوى لِي.
مَاذَا لَو كَانت أُمِّي عَلى قَيد
الحيَاة .. أ سنَغدُوا سُعداءً
نَضحكُ دُون آلَامٍ تقتُلنَا ؟.
أمِّي هِي الأمَانُ الذِّي فَقدتهُ، وأنَا
الآن فِي خوفٍ لَا يَأبى الهدُوء.
شَعرتُ بَيدٍ تتموَضع عَلى كَتفِي وتجعلُنِي أفِيقُ وأكسرُ شرُودِي فِي حَديثٍ دَاخِل رَأسِي، التَفتُ إلَيهُ ووجدتُ مِن حدقتيهِ تُطالعُنِي بهدُوءٍ تَسللهُ بعضُ اللِّين : « لَا تَقلق وَالدُكَ سيتفهَّم مَا حَدث .. ».
لَم أفهَم سَبب حَديثهُ المُفاجئ لكِّننِي ضَحكتُ بسُخريةٍ دُون قَصدٍ لتَخرُج كلمَاتِي بتهازُؤ : « سَيتفهم مَا حَدث ؟ أنتَ تتحدَّثُ عَن وَالدِي أركتُوروس .. ابنهُ أورِين مُخطئٌ وعَليهِ أن يُعاقَب ! ».
تَغاضيتُ عَن نَظراتهِ الحَائرة وأشحتُ مِن عَينيَّ عنهُ ثُم دَلفتُ المَنزِلَ حَال وصُولنَا دُون أي شَيءٍ قَد أذكرهُ مِن حَديثٍ حصَل بيننَا ..
إستوقَفنِي نِداءٌ تَسلل مِن مَكتبِ وَالدِي فَ قَبضتُ عَلى يَدِي قَبل أَن أكبِح تنهِيدَاتِي الثقِيلةَ ثُم أخطُو لبُقعةِ وجُودهِ.
…
طَرقتُ البَابِ رغبةً للإستِئذَان وقَد كَانت بِضعُ ثوَانٍ مِن الصمتِ حتَّى سَمح لِي بالدخُول، دَلفتُ أُغلقُ البَاب حَلفِي ثُم أعلِّق بصِيرتِي عَلى الأرض دُون مُحاولةٍ فِي رؤيتهِ ..
لَا أُرِيد سمَاع ثرثرةٍ ستُؤلمنِي، ولَا طَاقةَ لِي حتَّى أحتَمِل صفعَاتًا أُخرى ستؤذِيني .. لكِّن إن كُنتُ مُجبرًا عَلى الإختيَار فَ سأرسُم طرِيقي إلَى وَجعٍ جَسدِي لَا كلمَاتًا تنحتُ جِراحًا جَديدة فِي جَوفِي.
« هَل عَليكَ أن تُخجلنِي بتصرُفَاتك الصبيَانِية ؟ هَل ترغبُ فِي أن يَتِّم إعَادةُ تربِيتَك أُورِين ؟ ».
شَددتُ بقبضتِي حتَّى شَارتُ بأظَافرِي تُغررُ فِي كفِّي الهَزِيل، أَ هَذا مَا يكترِثُ إلَيهِ ويتجاهُل مَا
قَد يُصنعُ فِي خَافقِي مِن حُزن ؟ أنَا ابنهُ ! أنَا قِطعةٌ مِن أمِّي التِّي رَحلت ..
« لَم يَكفِيكَ أَن تمُوتَ وَالدتَكَ والآن بِتَّ مُجردَ عبئٍ عَلى كَاهلِي .. ».
تلَاشت بَقايَا كلمَاتهُ ليُصنَع صخيبٌ يُردد حرُوفهُ فِي ذهنِي ويُلقِي بقَلبِي فِي طيَّاتِ الألَمِ والحُزن ..
هُو يَلُومنِي .. يُشيرُ لِي بأصَابِع الإتهَامِ ويُخبرنِي بحرُوفٍ تَصنعُ جُرحًا جديدًا دَاخِل خَافقِي حتَّى بَات نزِيفُهَا قَاسيًا يَأبَى الإلتئَام والرحِيل.
لِماذا ؟ مَا الذِّي فَعلتهُ ؟ هَل أنَا حقًا سَببُ ذَلك ؟ لكِّن لِما ؟ لِماذَا لَا يكُّف فكرِي عَن سؤَالِي ؟ لِماذَا لَا يُنكرُ مَا قِيل ؟ هَل أنَا .. كُنتُ سَبب مَوتِ أمِّي ؟
« لتَذهب ولَا تخرُج مِن غُرفتكَ ولَا تُرِيني وَجهكَ حتَّى تُدركَ تصرُفَاتكَ الصبيَانِية وتُعيد ترتيبَ ذَاتكَ أُورِين ! ».
رَفعتُ مِن عَينيَّ الذَّابِلة صَوبَ خَاصتهِ الغَاضِبة .. لكِّنهَا بَدأت بالإرتخَاءِ حِينَ قَابلتنِي ثُم أشَاحهَا دُونَ مُعَاودةِ النَّظرِ لِي.
هَل بَات الكُرهُ فِي جَوفهِ نَحوِي مليئًا حتَّى أضحَى النظرُ لِي صعبًا ؟ أَم أنَّ رؤيتِي لَم تعُد رغبتهُ بَعد الآن ؟ فَ أنَا ألقيتُ فِي حيرةٍ لَا أفهَمُ فكرَ وَالدِي.
سَحبتُ ذيُولَ الخِيبةِ خَلفِي ورَسمتُ خُطواتِي إلَى بُقعةِ العُزلةِ وَحدِي بينمَا جوفِي يُردد بهلَاكِ رُوحِي ورَغبتِي فِي الرحِّيل إلَى الأبَد.
أغلَقتُ البَابَ ثُم ألقَيتُ بجَسدِي عَلى سرِيري قَبل أَن أشعُر بدمُوعٍ بَارِدة تنسَالُ عَلى وَجنتِي بهدُوء ..
وَضعتُ يَدِي عَلى صَدرِي قَبل أَن أقبِض عليهَا وأبدَأ فِي ضَربِ موضِع قَلبِي بخفةٍ فِي مُحاولةٍ لمَحِي شِتاتِي وضيَاعِي لكِّن الفَشل كَان مَلبثِي.
لَا رَاحةَ لِي فِي عَالمٍ قَذرٍ يتفِّقُ أُناسهُ عَلى إرهَاقِي.
لَقد نَفِذت طَاقتِي ولَم يعُد بمقدرتِي تحمِّل المَزيد وأعتقِد .. أنَّ المَوت هُو الطرِّيقُ الوَحيدُ لِي.
…
رَفعتُ عَينيَّ المُتعبة إلَى السَّاعةِ المُعلَّقةِ فِي حَائِط غُرفتِي لأرمُق عَقربَ السَّاعةِ الذِّي يُشيرُ
إلَى مُنتصَفِ اللَّيل ..
جُفَّت دمُوعِي عَلى وَجنتيَّ الهَزِيلة بينمَا فكرِي أبَى تَرك السَّيء حتَّى طغى عَلى عَقلِي ليجعَل مِن جَسدِي يعتدَلُ فِي جلُوسِهِ ويَفتحُ دُرجًا يَقبعُ جَانبَ سرِيرِي.
وَجدتُ مِن شَفرةٍ صغِيرة تتموضَع فِي زَاويةٍ مَا فَ إلتَقطتُهَا دُونَ تردُدٍ ثُمَّ حدَّقتُ بهَا لفترةٍ مِن الوَقت.
تمنَّيتُ المَوتَ فِي كُل يومٍ يزُور الصبَاحُ السمَاء.
فَ مَا فائدةُ البقَاءِ عَلى قيدِ الحيَاةِ فِي حِينِ أنَّنِي مَيتٌ مِن الدَّاخِل ؟.
رَحلت رُوحِي المسكِينة وبَقيَ جِذعِي الهزِيل فَ لِمَا لَا أرسُم مسَارِي إلَى قَبرِي بذَاتِي ؟.
ألَيس الرحِّيلُ إلَى النِهايةِ هُو الحَلُّ الوحيدُ لكُل شَيء ؟.
وَضعتُ لِسَان الشفرَةِ عَلى رِسغِي لكِّن الخَوفَ إنتشَلنِي وجَعل مِن الرجفةِ تكتسِحُ يَدِي فَ بَات الرُعبُ يَلتهُمنِي حتَّى أضحَيتُ ابكِي ذُعرًا مِن مَا أرغبُ فِي فِعله.
لِماذا ؟ لِماذا أنَا بهذَا الضُعف ؟ لِماذا لَا أستَطِيعُ فِعلَ ذَلك ؟ أ لأننِي فِي علمٍ لكونهَا خطيئةٌ لَا تُغفَر
؟ أَم لرغبتِي فِي العَيشِ رِغمًا عَن كُل شَيء ؟.
رغَبةٌ فِي العَيش .. تِلكَ هِي الحقِيقةُ التِّي أُنكرُهَا.
لَا أُريد المَوت، بَل قَتل مَا فِي جوفِي مِن ألمٍ يُعيقُ طرِيقَ حيَاتِي.
شَعرتُ بيَدٍ تنتشِلُ الشفرةَ مِن يَدِي بعُنفٍ فَ تَلاشت دَائرةُ الحِصارِ التِّي تُقيدنِي فِي ظُلمتهَا
لترتفِع حَدقتيَّ إلَى الفَاعِل حِينَ صرخَ فِي وجهِي : « أ جُننت ؟ ».
تَسلل فِي وجهِي ذبُولٌ لَم أُحاوِل إخفَاءهُ بَل بِتُّ أُحدِّجُ أركتُوروس الذِّي قَابلنِي بملَامحٍ غَاضبةٌ مُزجت ببعضِ العِتابِ حتَّى سَكبت فِي دَاخلِي ألمًا.
لِماذا يَنظُر لِي بهَذهِ الطرِيقة هُو أيضًا ؟
لِمَاذَا تُوجه لِي أصَابعُ اللومِ دائمًا وكَأننِي .. مُذنب.
« هَذا خَاطئٌ أُورِين، هَذهِ خَطيئةٌ لَا يجُب عَليكَ فِعلُهَا، المَوت لَيس حلًا .. ».
تَسللت كلمَاتهُ عِبرَ نَبرةٍ مُزجت بالقَلقِ والخَوف فَ إنعكَست عَلى عَينيهِ التِّي ترمُقنِي بهدُوء وقد كَانت كَافِيةً بجعلِ شَهقتِي تخرجُ عِبرَ ثغرِي حِينَ كَررتُ كلمَاتهُ فِي ذهنِي أُواجهُ ذَاتِي بالحقِيقة.
أنَا أعلُم جيدًا أَن المَوت لَيس حلًا لمَا أعِيشهُ .. لكِّننِي أتَألم، أشعرُ أنَّ فِي داخلِي يَقتُلنِي ببطءٍ ويَسلِبُ مِنِّي كُل شَيء حتَّى يُهشمنِي وأبقَى وحيدًا.
غَطَّيتُ عَينيَّ التِّي تبكِي وجعًا حتَّى تَحجُب رؤيتهُ لِي لكِّننِي وَجدتُ يُعانقنِي مُربتًا عَلى ظهرِي بخفةٍ بينمَا يُكرر أنَّ كُل شَيءٍ سَيكُون بخَير، وأنهُ بجوَارِي وَلن يَترُكنِي أرحَل ..
تَسلل فِي جَوفِي ندمٌ صُحبَ بأمَانٍ غَريبٍ لَم أفهَم وجُودهُ لكِّن كَلمات أركتُوروس كَانت سببًا فِي جعلِ شعُورٍ دَافئٍ يُراودنِي بعَد أَن كَان النسيَانُ طرِيقي.
…
ضَممتُ أقدَامِي وإتكَئتُ برَأسِي عَلى خَلفِية السرِيرِ بينمَا أركتُورس جَلس فِي الأرضِ بقُربِي يُحدِّجُ الفرَاغ بهدُوءٍ لَا يَشبهُ صخبهُ المُعتَاد ..
« لَا تَفعل هذَا مُجددًا أُورِين ».
تَمتمَ فِي خُفوتٍ يَسرِقُ رَغبتِي فِي الغيَاب دَاخِل فكرِي فَ وَجدتُنِي أُحدِّجهُ حِينَ تَابع بنَبرةٍ سَاكنة : « قَد تكُون الأمُور مُؤلمةً ومُتعبة، لكِّن الأذيةَ لذَاتكَ ورسمُ خُطواتِكَ عَلى طرِيق الرحِّيل لَيس الحَل .. لأنَّ النَدم سيكُون رفِيقكَ بعَد ذَلك ! ».
لَم أجِد كلمةً تُجِيب عَلى مَا قِيل مِنهُ فَ بَقيتُ صَامتًا أستَمِعُ لمَا يُصَاغ مِنه : « أنَا أعلمُ جيدًا أننِي إلتقينَا البَّارحة، لكِّننِي صدِيقُكَ الذِّي تَصنعُهُ الموَاقفُ لَا الوَقت الذِّي يَقِضيه مَعك .. ».
أشَحتُ بعَينيَّ عَنهُ لأُرخِي مِن أجفَانِي بينمَا هُو إسترسَل مُكملًا حَديثه : « سأكُون الصدِيق الذِّي يَقِفُ مَعك، واليَد التِّي تُربت عَليك، والكتفَ الذِّي يُمكنكَ الإستنَادُ عَليه .. وشخصًا، يُمكنكَ الحَديثُ مَعهُ وسيتسمِعُ لَك ! ».
م-مَاذَا .. كَيفَ لشخصٍ غرِيبٍ أن يُخبرنِي بِشيءٍ لَم يَفعلهُ الأقرَبُ لِي ؟ لِماذا قَد يُصبح صديقًا لِشخصٍ كَئيبٍ لَا يعرِفه ؟
« لِماذا ؟ ».
خَرجت تَمتمتِي بخفُوتٍ تَسألهُ ليلفتنِي بإجَابتهِ التِّي بَدى لِي أنهَا جاهزةٌ لَا تحتَاجُ لتفكيرٍ سَابِق : « لأننِي أعلَمُ جيدًا مَعنى أَن يكُون المَرءُ وحيدًا ويَحتاجُ مَن يُجاورهُ .. أرغَبُ فِي أن أكُون صديقًا يَستحِّقُ أن يُنعتَ بهَذهِ الكَلِمة ! ».
جَال ذهنِي سؤالٌ عَنهُ، أركتُوروس .. مَا الذِّي عَاشهُ فِي حَياتهِ حتَّى يُخبرنِي بهَذهِ الكلِمَات ؟ شَخصٌ كَ هَذا .. لَا يجُب عَلى الحُزنِ أَن يَزُوره.
« حيَاتُكَ ستعِيشُهَا مرةً وَاحدة فَقط، إمَّا أَن تستسِلمَ لآلَامِكَ وأحزَانكَ وتندفِن فِي ظلَامٍ دُونَ مَجالٍ للعَودة .. أو تُناضِل وتَتذوَق بؤسًا وبَهجة، ضِيقًا ورَاحة، لَا ثَابِتَ فِي طرِيقكِ الذِّي ستَسيرُ عَليه ! ».
لَفتنِي مُجددًا بكلمَاتهِ وبَقيَ يتحدَّث دُون توَقفٍ يَشبهُ ثَرثرتهُ المُعتَادة لكِّن .. بحرُوفٍ صِيغت مِن جوفٍ تَسللهُ دفئٌ واهتمَام : « امضِي حيَاتكَ كمَا تُرِيد وواجِه مَا تهرُب مِنهُ فَ لَا شَيء يَستحِّق أن تُلقى فِي قوقعةِ اليَأسِ حتَّى تكُون رَغبتكَ هِي الرحِيل ! ».
ألقَى بِضحكةٍ خَافتة ثُمَّ أردَف : « قَد تكُون كلمَاتِي عَابرةٍ ولَا يُمكنهَا التخفِيفُ عَن ثقلِكَ لكِّن تَذكر أُورِين .. أنتَ شخصٌ قوِي ولَا وجُودَ لكلمةِ الاستسلَامِ فِي قَامُوسه ! ».
مَن يُخبرُ الانسَان أن الكلمَات لَم تكُن يومًا عَابرة .. بَل هِي خيُوطٌ مِن الأملِ لشخصٍ يَائسٍ تَجعل مِن الصمُودِ طريقًا لهُ.
« شُكرًا لَك أركتُوروس ».
أردَفتُ بعَد صمتٍ طَال لدَقائق فَ قَابلنِي بإبتسَامةٍ صغِيرة جَعلتنِي أُتَابع بعَد مَسح دمُوعِي الضعِيفة : « أنتَ .. صديقٌ جَيد ».
لَم أعلَم بمَاذَا أتفوه لكِّنني تَركتُ مِن التمرُد يُسيطر عَلى لِسَانِي ويخرُج حَديث جَوفِي : « لنَكُن أصدقَاء ! ».
كَان طلبًا غريبًا لَم يزُر فكرِي مِن قَبل، إضَافةً لِذَلك هُو مَن طَلب مِنِّي ذَلك أولًا والآن أنَا أُعِيد نَفس مَا قِيل ..
« نحنُ أصدقَاءٌ أُورِين ! ».
جَابهنِي مُبعثرًا شعَرهُ بخفةٍ يُلقِي بضحكةٍ خَافتة لتعتلِي شِفتيَّ شَبحُ ابتسَامةٍ نَبع مِن قَلبي للمرَّةِ الأُولى بَعد وَقتٍ طوِيل.