-كَانت أحَاديث مَكبُوتة تَأبَى الخرُوج.


[ مَرارةُ الوَاقِع ]

تنهَّدتُ بعُمقٍ أُلقِي ثُقلِي عِبرَ أنفَاسِي قَبل أَن

أطرِقَ البَابَ ثلَاثة مرَّات، بَللتُ شِفتيَّ أُرطبهُمَا لأمسحَ يديَّ ببعضهمَا البَعضَ إثرَ عرقٍ طفِيف

كَان سَببهُ توتُّرِي ..

لَقد أخبرنِي وَالدِي برغبتهِ في رُؤيتِي بعَد عَودتِي مَع أركتُورُوس الذِّي لَا زَالت حرُوفهُ تُردد فِي ذهنِي.

نَفضتُ فكرِي عندمَا سمِعتُ صَوتَ وَالدِي يَسمحُ

لِي بالدَّخُول فَ دَلفتُ إلَى مَكتبهِ أُغلِقُ البَاب خَلفِي بهُدوءٍ قَبل أَن ألتَفت إلَيه ..

وَقفتُ أحدِّق بالأرجَاءِ فَ وجدتُ مِن

حقِيبةِ سَفرٍ تستقِّرُ بجَانبهِ لترتفِعَ حَدقتيَّ

لهُ أثنَاء تقلِيبهِ لبعضِ الأورَاقِ بينَ يَديهِ.

رَمقنِي بهدُوءٍ قَبل أَن يُلقِيهم عَلى الطَّاولةِ ويِشيرَ لِي بالجلُوسِ عَلى الأرِيكةِ المُقابلةِ للطَّاوِلة.

تقدَّمتُ أجلِسُ فِي إنتظَارٍ

لحَديثهِ الذِّي كَان قَبلهُ صمتٌ

خلَّف زفيرًا لنَفسهِ الهَادئ.

نَظر لِي كمَا أفعَل ورَسمَ عَلى شِفتيهِ ابتسَامةً صغِيرة قَبل أَن يردِف : « أعلمُ جيدًا أنَّ حدِيثي قَد يبدُو غريبًا وأنَا حقًا لَا أعرِفُ طريقةً جَيدةً تجعلُنِي أبدَا حَدِيثي .. ».

« مُنذُ رحِيل وَالدتكِ وأنَا .. لَستُ فِي حالٍ جيِّدةٍ لكِّننِي أعلَمُ أنهُ لَيسَ عُذرًا لأنَّنِي سَأبدُوا سخيفًا إِن قُلتهُ، أنَا أسِفٌ أُورين ».

إرتخَت ملَامحِي حتَّى بَاتت دُون تَعابيرٍ تُذكر فَ سمِعتُ يُتابع حرُوفه : « تِلكَ الكلِمةُ لَن تُرمم وتَمحِي مَا فَعلتهُ مَعكَ لكِّنني أسفٌ أُورين .. ».

كَبحتُ دمُوعًا تَسللت لمِقلتيَّ فِي رغبةٍ لفضحِ مَا يَلفحُ جوفِي مِن ضُعفٍ بَات يَكتبُ مِن طرِيق الإنهيَارِ مسارًا لِي.

« سأفتَقِدُكَ أُورِين .. ».

م-مَاذَا ؟ لكننِي معهُ فَ لِمَا

ينطِقُ بالفُقدَانِ فِي حِينِ أننَا

لَم نَرحل !

« سأرحلُ لفترةٍ مِن الزَمن .. ».

" يجُب عَلي الرحِيل للخَارج "

عقدتُ حاجباي، لِماذا ؟ مَا الذِّي

يعنِيهِ بأنهُ .. رَاحلٌ دُون توضِيح ؟.

« لَا أعلَمُ مَتى سأكتُب عَودتِي لكِّننِي لَا

أستطِيعُ البقَاء هُنَا .. ذِكريَاتُ وَالدتُكَ تنهشُ

قَلبِي مِن فُقدانٍ يَزُور جوفِي حِينَ ألمحُ طيفهَا

كُل يَوم ».

تجمَّدتُ فِي بُقعتِي عندمَا تَسلَل فُي صوتهِ

إرتعَاشٌ طفِيفٌ حَاولَ مَحيهُ بإبتسَامةٍ صغِيرة

بَدت مُزيفةً تُخفِي خلَفهَا حُزنًا يعِيش فِي خَافقهِ البَائِس.

كَانت المَرةُ الأُولَى التِّي يُصفحُ فِيهَا لِي عن شَيءٍ أجهلهُ لَيبدُو بضُعفهِ واضحًا حتَّى سَألتُ ذَاتِي ..

هَل أبِي يَشعُر بالوِحدةِ كمَا أفعَل ؟ أ كَان يُحاولُ الصمُودَ بوَجهِ القُسوةِ مُعتقدًا أَنهُ طريقٌ سيمحِي حُزنهُ ؟ مَا الذِّي يعِيشهُ مِن دُون أَن يتحدَّث ؟ هَل هُو .. يَائسٌ كَ ابنهُ الوحِيد ؟.

« لَقد نَسيتُ إخبَاركَ أننِي تولَّيتُ أمرَ ذَلك الصبِي والرِجال الذِّينَ كَانُوا مَعهُ ».

جَابهنِي يَفصُلنِي عَن أسئلتِي ليُلقِي بكلمَاتهِ التِّي جَعلت مِن سُؤالِي يَنساب : « مَا الذِّي فَعلتُه ؟ ».

كَان لمُقاومةِ مَا يجتَاحُنِي مِن حُزنٍ عَلى حَال أبِي ورغبةً فِي مَحِي شعُورٍ يُحاوِل إجبَارِي عَلى عِناقهِ والتربِيت عَلى ظهرهِ .. ثُمَّ مُواسَاتهِ وإخبَارهِ أننِي بجَانبهِ.

لكِّننِي لَم أفعَل، بَل دَفنتُ

مَا أُريدهُ فِي جوفِي مُجددًا.

« أعرِفُ وَالد ذَلك الصبِّي وقَد كَان أمرهُ سهلًا .. بَينمَا أولئكَ الرِجَالُ ذُو سوَابقٍ وقُبضَ عليهُم ! ».

صرَّح بحقِيقةِ مَا حَدثَ لأُومِئَ برَأسِي دُون كَلمةٍ تُذكَر فَ بَات الصَّمتُ يعِيشُ بيننَا كَ العَادة.

« يَجُب عَلى أبِيكَ الرحِيل أُورين .. ».

أردَفَ وَالدِي يَلفُت انتبَاهِي مُجددًا أثنَاء

استَقامتهِ مِن بُقعتهِ فَ وجدتُنِي أُماثِلُ فِعلتهُ وأتجمُد فِي مكَانِي حِينَ تقدَّم صوبِي بخُطواتهِ الهَادئةِ حتَّى قَابلنِي بإبتسَامةٍ قَبل أَن ترتفِعَ

ذرَاعيهُ وتُعانقنِي.

سُكبَ فِي جوفِي ألمٌ دفِين

خلَّف دَاخِلَ عُنقِي غصةً تَأبَى

الرحِيل فَ وجدتُ مِن عتَابِي

ينَسابُ دَاخلَ رَأسِي ..

لِمَاذَا يترُكنِي أبِي خَلفهُ ؟ لِمَاذَا لَا يُقاوم

الصِعَاب مَع ابنهُ الوحِيد ؟ أنَا أيضًا .. أَنا أيضًا تؤلمُنِي ذكرياتُ المَاضِي وتُشَّتت فكرِي حتَّى تُلقِيني فِي بُقاعِ البؤسِ.

كَبحتُ نحِيبَ خَافقِي ورَمقتهُ يبتعِدُ عنِّي

بابتسَامةٍ صغِيرةٍ لَم تُمحى عَن وجههِ ليَرسُم خُطواتهُ إلَى الخَارج بَعد آخرِ نَظرةٍ حمَلت دِفئًا

رغبتُ فِي وجُودهِ دَائمًا ..

فَ وجدتُ مِن دمعتِي اليَائسة تنسَابُ بهدُوءٍ عَلى وَجنتِي تُعلِّنُ هزُيمتِي أمَامَ المُقاومةِ والصمُود.

سَحبتُ ذيُولَ ألمِي إلَى غُرفتِي حَال رحِيل أبِي وأركتُورُوسِ إلَى المَطار فَ وجدتُ مِن خيُوطِ الوِحدةِ تعُود لِي ..

أُمِّي، أ لَا يُمكنكِ العَودةُ إلَى هُنَا مِن أجلِي ؟.

فَ لَقد رَحلَ أبِي وأنَا وحيدٌ مُجددًا دُون مَن

يُجاورُ بُقاعِي المُظلِمة.

شَعرتُ بمِياهِ مَدمعِي تنَسابُ وتترُك طرِيقِ

الثبَاتِ جَانبًا حتَّى سُكبَت شَهقَاتٌ خَافِتة كَان

نحِيبي سببهَا ..

لَم أستطِع الصمُودَ وأشعُر بالحُزن.

أُمِّي، ابنُكِ يَتألمُ رُغمًا عَن سَلاسلِ المُقاومةِ التِّي يُقيدُ نفسهُ بهَا حتَّى يَمضِي فِي بؤسِ الحيَاةِ دُونَ يَأسٍ يَجعلُ مِن الرحِيل طريقًا بهِ.

أنَا مُتعب .. أَنا مُتعبٌ يَا أُمِّي.

أنَا أشتَاقُ لكِ، لِما لَا تَعُودِينَ لِي

وتُعانقنِي ؟ تِلكَ رغبتِي الوحِيدة.

لِماذَا رحلتِي ؟ لِمَاذَا تَركتنِي وحيدًا ؟

أنَا لَا أُريدُ عِتابكِ لكننِي لَا أحبُذ البقَاء

مِن دُونكِ ..

أمِّي .. لَقد إعتذَرَ أبِي، كَلمةٌ وَاحدة جَعلتنِي

أتمنَى بَقائهُ لكِّنهُ رحَل لمُدةٍ لَا يَعلمُهَا أحَد.

رغِبتُ فِي الذهَابِ معهُ، أَن أرحلَ بعيدًا عَن كُل شَيءٍ فَ ذكريَاتُكِ تؤلمُنِي .. رُغمَ جمَالِ مَا عِشتهُ مَعكِ إلَّا أَن رحِيلُكِ يَجعلُهَا تُلقِيني فِي البَعثرة.

لكِّن .. فِي نِهايةِ المَطاف، وإِن كُنتُ وحيدًا؛

يَجُب أَن أُحاوِل لمُقاومةِ حُزنِي، مِن أجلكِ.

حتَّى لَا تُصبحِي حزِينة، حِزينةً مِن أجل حُزنِي.

ورُغمَ عِلمِي أنكِّ لَا تسمعِينَ حَدِيثي إلَّا

أننِي بِتُّ أُحادِثُكِ حتَّى شَعرتُ بأجفَانِي تنسدِلُ وتُلقِيني فِي بُقاعِ الظَلامِ والهدُوءِ .. حَيثُ الأحلَامِ والكوَابِيس.

وأُمنيتِي الوحِيدة، لِقائُكِ فِيهَا.

شَعرتُ بوخزَاتٍ مِن قِبَلِ أنَاملٍ

تَلمِسُ وجنتِي ليجُولَ فكرِي إجَابةٌ دُونَ سَابِق حديثٍ مَع ذَاتِي فَ لَا أحَد يُوقظُنِي ويُزعجنِي بهَذهِ الطرِيقةِ عَداه، هُو فَقط .. أركتُورُوس.

فَتحتُ ستَائِرَ عَينيَّ أكشِفُ عَن حَدقتيَّ لأِعيد

سَدلَ أجفَانِي حِينَ شَعرتُ ببعضٍ مِن الألمِ فِيهَا، أعتقِدُ أنَّ الإنتفَاخ نَال نصِيبهُ مِن مكَانهِ فِيهمَا إثرَ بُكائِي طيَال اللَّيل ..

حَاولتُ نَفضَ فكرِي ورَمقتُ

أركتُورُوس الذِّي جَابهنِي بإبتسَامةٍ

وَاسعة : « صبَاحُ الخَير ! ».

صبَاح الخَير .. هَل ذَلك صبَاحِي ؟ أَن يزُورنِي مَا

فِيهِ خيرٌ دُون وجُودِ سَيءٍ يَمحِي مُحاولاتِي فِي الصمُود ؟ لَستُ أعلَمُ مَا الإجابةُ الصحِيحةُ لمَا يَنسابُ مِن سؤالٍ دَاخِل ذهنِي.

« صبَاحُ الخَيرِ لكَ أيضًا .. ».

أردَفتُ بخفُوتٍ وأنَا أستقِيمُ مِن سرِيري فَ وجدتُ الفَرقَ بيننَا مُثيرًا للسُخريةَ حَيثُ هُو يَبدُو نشيطًا وذُو طَاقةً عَالِية، بَينمَا أَنا كئيبٌ ومُرهقٌ لَا أُحاوِلُ صُنعَ نقِيض ذَلك.

لكِّن .. جَال فكرِي حَديثُ أركتُورُوس

مِن اليَومِ السَّابِق حِينَ نَطقَ بمَا

لَم يزُر ذهنِي مُنذُ لِقائهِ.

كَيفَ للمرءِ أَن يكُونَ خِلاَف

مَا فِي جوفهِ مِن بؤسٍ يُلقِيه

عَلى حَافةِ الإنهيَار ؟.

نَحنُ أبنَاءُ المُقاومةِ الذِّينَ لَن

يَكتبُوا مِن الاستسلَامِ طريقًا لهُم.

تِلكَ الجُملةُ الوحِيدة التِّي إستطَاع فكرِي

صيَاغتُهَا تعبيرًا لحَالِ أركتُورُوس .. ورُبمَا أنَا.

لَستُ مُتأكدًا مَا إذ كُنت مُقاومًا لكِّننِي لَا زِلتُ أُحاوِلُ رغمًا عَن جِراحِ خَافقِي التِّي تُذكرنِي بمَا رَحل.

« لَقد زَارتنِي فكرةٌ سَأُطبِقُهَا الآن ! ».

أعَادنِي للوَاقعِ كلمَاتُ أركتُورُوس الذِّي سَحبنِي

مِن يَدِي وأوقفنِي مِن بُقعتِي حتَّى ألقَانِي بجَانبِ الحمَّامِ لَيبعث حرُوفهُ بسرعةٍ وبَعضِ اللهفةِ التِّي بَانت عَلى طَالعهِ بوضُوح : « إغتسِل سريعًا وتَعال للخَارج ! سأكُون فِي انتظَارك .. ».

هَذا الصبيُ حتمًا غرِيبُ أطوَار، مَا الذِّي

يُخطط لهُ ويَرغبُ فِي تطبِيقهِ دُون إخبَارِي ؟.

رَفعتُ طرفَ شِفتِي ببعضٍ مِن السُخرِيةِ

أُحدِّجُ أركتُورِوس عِبرَ زُجاجِ المِرآةِ الموجُودِ

أمَامِي أثنَاء جلُوسِي عَلى مِقعدٍ أسود يَقِفُ خَلفهُ رجُلٌ لَا أعرِفهُ .. لِماذَا نَحنُ فِي صَالُون تصفِيف

الشَّعر ؟.

« لِماذا أجلِسُ هُنَا ؟ ».

نَطقتُ دُونَ أَن أُشيح بعَينيَّ عَن أركتُورُوس الذِّي يُطالعنِي بحَدقتَينِ تَشبهُ الجَرُو أردَف بصُحبتهَا : « سَنُغير لَونَ شعركَ يَا صَاح ! لَا إعترَاضَ فِي مَا يُقَال لأننِي لَن أحبُذ أَن تَرى جَانبِي الغَاضب .. ».

هَل يَمزحُ معِي هَذا الأحمَق ؟ لأننِي مُتأكدٌ مِن عَدمِ وجُودِ جانبٍ غَاضبٍ كمَا يُقَال ولكِّن إِن وُجد سَيشبهُ الجِراء الصغِيرة حتمًا.

« أنتَ مُصيبتِي يَا أركتُورُوس ! ».

« مِن دوَاعِي سرُورِي يَا صدِيقي الوغِد ».

جَابهنِي بتهَازُؤٍ مُزيفٍ يُحاوِلُ بهِ تقلِيد نبرَةَ صوتِي لِأُدحرِجَ عَينيَّ بإستيَاءٍ ورغبةً فْي الهرَب مِن هُنا ..

لكِّن كلمَاتهُ سَحبتنِي مِن فكرِي وجعلتنِي أُلقِي حروفِي بتهكِّمٍ وَاضح : « كَرر مَا قُلتهُ ؟ لَم أستطِع سمَاعكَ جيدًا ! ».

نَطقتُ أُشيرُ صَوبَ أُذنِي ليَرمُقنِي أركتُورُوس بتحدٍ مُردفًا مُكررًا مَا قَالهُ : « لنُجربَ اللَّونِ الزَهرِي ! ».

« قطعًا لَا !! ».

انفَعلتُ دُون رَغبتِي ليَجحظ عَينيهُ بتفَاجُئٍ

مِنِّي فَ وجدتُنِي أُدافعُ عَن نَفسي : « لَستُ راغبًا فِي لَفتِ الانتبَاهِ برأسٍ زَهرِيٍ لَا يلِيقُ بِي .. ».

« ومَن يكترِثُ حيَال ذَلك ؟ ».

« أَنا أفعَل ! ».

كلمَتينِ جَعلتهُ يبتَلع بَقايٍا حرُوفهِ لأُشيحَ

بعَينيَّ عنهُ فِي رغبةٍ للخرُوجِ مِن هُنَا لكِّنني بَاقٍ

مِن أجلِ أركتُورُوس الذِّي لَا تكُن لِي إرَادةٌ فِي جعلهِ يفقِد لَهفتهُ حِيَال فكرتهِ المُفاجئة لِي ..

لكِّن، اختيَارهُ للونٍ وَاضحٍ يَجعلُنِي لافتًا للإنتبَاهِ سَيجعلُنِي أمقِتُ ذَلك لأننِي لَا أرغَبُ فِي أَن يَرانِي

أحَد ..

لأنَّنِي لَا أحبُذ مَا تُوجه لِي مِن

نظراتِ سخطٍ يَلفحُهَا غُربةٌ تَجعلُنِي

أعلَمُ جيدًا أننِي وحِيد.

« لِيَكُن، أ يُمكننِي اختيَارُ اللونِ الرمَادِي لأطرَافِ شَعرِك ؟ ذَلك أفضَلُ مِن الزهرِي وإن كَان خيارِي الثَّانِي .. ».

أردفَ أركتُورُوس يَفصِلُنِي عَن فكرِي ويُدحرجُ حَدقتيَّ لهُ فَ جَال عقلِي رغبةٌ فِي الرفضِ لكِّنني فَقط تَركتهُ يُثرثرُ وأومَأتُ برَأسِي ببعضٍ مِن التردُدِ لتعتلِي مَلامحهُ ابتسَامةٌ وَاسعة يُشيرُ بهَا للرجُل فِي بَدئ العَمل ..

العَمل عَلى شعرِي.

حدَّجتُ ذَاتِي فِي المِرآةِ مُجددًا بَعدَ أَن رَحل أركتُورُوس مِن أجلِ اختيَارِ شيءٍ جديدٍ لِي فَ

شعرتُ بالغُربةِ مِن نَفسِي ..

لَستُ مُعتادًا عَلى اختلَافٍ يَلفحُنِي لكِّنهُ كَان غَيرَ مألوفٍ بطرِيقةٍ أعجبَتنِي وَجعلتنِي أتفَحصُنِي فِي كُل مرةٍ أَرى بِهَا مَا يعكِسُ صُورتِي.

« أُنظُر لهَذهِ الألوَانِ الجمِيلة يَا صَاح، لِماذا

ترتدِي الأسودَ وكَأنكَ فِي عزاءٍ يَا أُورِين ؟ ».

جَابهنِي أركتُورُس يَلتقِطُ عَينيَّ نَحوهُ فَ طَالعتُ

مَا يحمِلهُ فِي يَديهِ مِن قميصٍ أبيضٍ وسُترةٍ ذَات لونٍ مُماثِلٍ بينمَا بِنطالٌ رمَادِي وآخرُ أخضَرُ وبَعضُ الأحذِيةِ المُلونةِ التِّي جَعلتنِي أُحاوِل مُساعدتهِ فِي حملِهم ..

« مَن قَال أنَّ المَلابِسَ السودَاء للعَزاءِ فَقط ؟ ».

نَطقتُ أرمُقهُ ليُحدِّجنِي بفاهٍ مفتُوحٍ كَأنهُ يدُرِكُ مَا قَالهُ ثُمَّ هزَّ رَأسهُ بإيمَاءةَ خفِيفة : « أنَا مَن قُلتُ ذَلك لكِّننِي أظُنهَا أيضًا جُملةٌ معرُوفة، عَلى أيِّ حَال عَليكَ تغيير مَا ترتدِيه .. ».

« سأنتقِيهَا بذَاتِي .. ».

« لَا ! لَن تَفعل، هَذا القمِيصُ الأبيَض لكَ مَع

هَذهِ السُترةِ الجمِيلة وإختَر بِنطالًا أزرقًا أَم .. ».

أردفَ ببعضٍ مِن الانفعَالِ يَقطعُ حرُوفِي بينمَا يُلقِي مَا اختَارهُ ليجعَلنِي ألتَقِطهُ حتَّى أوقَفتهُ : « أسوَد .. البِنطَالُ اسوَد ».

رَمقنِي قليلًا قَبل أَن يُلقِي ب كلمةِ « حسنًا » ويَدفعُنِي نَحو غُرفةِ تغييِر الملَابِس.

طَالعتُ مَا بيديَّ وبعضُ الضيَاعِ تَلبسُنِي

إثرَ مَا يَفعلهُ أركتُورُوس مَعِي ..

مَا الذِّي يُحاوِل هذَا الصبيُ إيصَالهُ لِي بكُل

هَذا ؟.

« تَبدُو رَائعًا يَا صَاح ! ».

جَابهنِي أركتُورُوس حِينَ خرجتُ وهُو يَرفعَ

ابهَامهُ بإعجَابٍ لمَا أرتدِيه فَ وجدتُه يحمِلُ فِي يدهِ الاُخرى ثِيابًا جدِيدة بَدى راغبًا فِي جعلِي أُجربهَا وقَد تقينتُ مِن ذَاك عندمَا تقدَّم نحوِي مُردفًا : « جرِّب هذَا أيضًا .. ».

« لَن أفعَل، لنَأخذهُم معنَا فَقط ».

جَابهتهُ أُنفِي مَا يُريدهُ بمَا أرغَبُ بهِ ليُحدِّجنِي بإحبَاطٍ لبِضعِ ثوانٍ حتَّى وَافقَ عَلى ذَلك لتنسَاب أنفَاسِي بتنهِيدةٍ خَافتة مُرتاحة .. هَذا الصبِي عنِيد، للغَاية.

« لتَدفع ثَمنَ ثِيَابك فَ أنَا مُفلسٌ وللأسفِ

الشدِيد ».

نّطقَ أركتُورُوس لتنسَاب ضحكتِي السَّاخرة حِيَال مَا قَالهُ أثنَاء دَحرجتِي لحَدقتيَّ بتهَازؤٍ مِنهُ وإخراجِ البِطاقةِ البنكِية مِن مِحفظةٍ موجُودةٍ دَاخِل جيبِ بِنطالِي الذِّي لَم أُغيرهُ.

إلتَقطَت عَينيَّ سِوارًا أسوَدًا تَسللهُ نجمةٌ

ذَهبِية فَ وجدتُنِي اُمسكهُ بتردُدٍ قَبل أَن أدُوس عَلى ما يجتَاحُ جوفِي مِن حِيرةٍ وأضَعُ اثنَينِ مِنهُ فوَق الطَاوِلة : « هذَا أيضًا .. ».

« مَا هذَا ؟ مَا هَذا ؟ ».

جَابهنِي أركتُورُوس يُكرر كلمَتهُ بطرِيقةٍ طفُولِية جَعلتنِي أسخَرُ مِنهُ دُون إجَابةٍ قَبل أَن أتنَاول كُل شَيءٍ فِي كِيس ورقِي وأُلقِي بشُكرِي نحوَ الرجُل الذِّي قدَّمتُ لهُ نقودًا مِن أجلِ مَا اشترَيتهُ، ومَا اشترَاهُ هَذا الصبِيُ مِن أجلِي.

« هَل هَذهِ مِن أجلِي ؟ ».

سَألنِي أركتُورُوس أثنَاء تقدِيمِي للسِوارِ لهُ

بينمَا الآخرُ بِتُّ أربُطه حَول مِعصمِي لأرمُقهُ يُحدجنِي بابتسَامةٍ وَاسعة جَعلتنِي أنطِق : « لَا تنظُر نحوِي بهَذهِ الطرِيقة .. يكفِي شعُورِي بالحَرج ! ».

أغلَقتُ عَينيَّ بإحبَاطٍ حِينَ جَابهنِي

بضحكَاتهِ المُرتفعةِ مَع كلمَاتٍ رُغمًا عَن صخِيبهَا إلَّا أنهَا بَدت تحمِلُ في بَاطنهَا سعَادةً .. حقِيقية : « هَذَا سِوارُ صدَاقتنَا يَا صَاح ! ».

كَان شعُورًا لطِيفًا، أَن يُصبح سعيدًا

بِسبب بسِيط جَال فكرِي وفَعلتهُ دُون

سَابِق تفكيرٍ طويِل سيقُوم بمنعِي

فِي النِهاية.

شَعرتُ بيَدهِ تصفعُنِي عَلى ظهرِي أثنَاء قهقهَاتهِ التِّي لَم تنفَك عَن الخرُوجِ ليُرِينِي مِعصمهُ عندمَا ارتدَى السِوار : « إنهُ رَائع ! ».

حِينَها، اعتَلت شِفتيَّ ابتسامةٌ صغِيرة جعلت مِن شعُورٍ مُختلفٍ يزُور جوفِي .. السعَادة، نُقطةٌ لَم أذُقهَا مُنذُ رحِيل أُمِّي.

لَيلةٌ يلَفحُ السمَاء غيُومًا مُشتَّتةً تُحاوِل إخفَاء هِلاَلَ القَمرِ الذِّي يبَعثُ ضوءً خَافتًا كَان مُناسبًا لرِياحٍ هَادئةَ تنسَابُ فِي الأرجَاء ..

إسترَقتُ نظرةً إلَى أركتُورُوس الذِّي يرمُق النجُومَ بعَينَيهِ والسكُون يعَتلِيهِ فَ عَادت بِي الذَّاكرةُ لمَا قِيل مِنهُ مُنذُ بِضعِ أيامٍ مِن الآن.

عَضضتُ وجنتِي بأسنَانِي دَاخليًا فِي رَغبةٍ لسَماعِ حَديثهِ الصَّاخِب لكِّنَ الهدُوءَ كَان رفيقًا لصوتهِ ..

« التغييِر .. يُحدثُ فرقًا فِي جوفكَ أُورِين، لَا تَبقى فِي نَفسِ النُقطةِ وتُقيِّد نَفسك بهَا، جرَّب مُخالفَة قوَانِين ذَاتكَ التِّي تحبِسُ ذَاتك دَاخلهَا حتَّى يُصبح مَا حولكَ نقِيضًا للعَادة، ذَلك سَيجعلُكَ تبتسِم ».

لَفتتنِي كلمَاتهُ التِّي أخرجهَا دُون أَن يرمُقنِي،

فَ جَال فكرِي مَا فَعلهُ اليَوم مِن أجلِي .. أ لِذَلك حَاول جعلِي أسيرُ وفقًا لهُ لَا لذَاتِي التِّي تردعنِي دائمًا عَن كُل شَيء ؟.

ذَلك .. يسكِبُ دفئاً لطِيفًا فِي جوفِي المُهشَّم.

ازدرَدتُ رِيقِي قَبل أَن أُخرِجُ

صوتِي بخفُوتٍ يٍجعلهُ يرمُقنِي

: « أركتُورُوس .. ».

ورُغمًا عَن تردُدٍ يَكتسِحُ جوفِي تَابعتُ أُفصحُ عَن شيءٍ رغبتُ فِي نُطقهُ مُنذُ مدةٍ طوِيلة : « شُكرًا

لَكَ عَلى كُل شَيء ».

ارتَفع عَلى شِفتيهِ ابتسَامةٌ صغِيرة قَبل

أَن يُجِيبنِي : « ولَكَ أيضًا أُورِين .. ».

رُسمت تِلكَ البَسمةُ عَلى محيَاِي أثنَاء

دَحرجَةِ حَدقتيَّ إلَى السمَاءِ كمَا فَعل.

لكِّن ذَلك مُحيَ حِينَ وَجدتُ مِن مَن يُجاورنِي يترُك جَانبِي ويَركُض صَوبَ بُقعةٍ إلتَفتُ لهَا حَال رحِيلهِ ..

حَيثُ يَقبعُ طِفلٌ صغِير يَلحقُ بَالونهُ الطَّائِر إلَى الشَّارعِ فَ خَرجت مِقلتيَّ وقَد ظَهر عليهُمَا نتُوءٌ وجحُوظٌ ليُسكَب فِي جوفِي إرتبَاكٌ جَعلنِي أجرِي خَلفهُ عندمَا لمَحتُ سيَّارةً ترسُم طرِيقهَا لهُ ..

« أركتُورُوس !! ».

خَرجٍ صُراخِي حَال رؤيتِي لهُ ينتشِلُ الطِفلَ

مِن المُنتصفِ لترتعِش يَدِي وأنَا أرمُقهُ يَضمهُ إلَى صَدرهِ فِي عناقٍ يُخبئهُ بذرَاعيهِ حتَّى تَسللَ صوتُ إرتطَامِ السيَّارةِ بهُمَا ليجعلَ مِن جَسدهِ يَندفعُ بقوةٍ مُتدحرجًا عَلى الطرِيق ..

إرتعَشت يَدِي لتسقِطَ الكِيسَ الوَرقِي الذِّي كُنتُ احمِلهُ، تَجمدتُ فِي بُقعتِي أثنَاء إرتطَامُ المَارةِ بِي وركضهُم صَوبَ الحَادِث بينمَا أنَا فِي مكَانِي أُنفِي مَا حَدث حتَّى التَقطت حَدقتيَّ جَسدهُ المُلقَى أرضًا ..

تَلَاشتِ الأصوَاتُ مِن حَولِي وأنَا أركُض بأقدَامٍ ثقِيلة وأدَفع مَن يحُيطُونَ بهِ حتَّى اتَضحت لِي الرؤيَة.

لَمحتُ دماءً تنسَابُ مِن جبِينهِ عَلى وجههِ حتَّى لُوِّثَ بهَا فَ شَعرتُ بسقُوطِي عَلى رُكبتَيَّ أرتجفُ خوفًا : « أرك-أركتُورُوس .. ».

خَرجَ صوتِي بإرتعَاشٍ لتنسَاب دمُوعِي أثنَاء

حملِي لنصفهِ ووَضعهِ عَلى جُحرِي بينمَا رَأسِي يُنفِي مَا تَراهُ عَينيَّ لتلتقِطنِي عَينيهُ الهَّالكةِ فَ خرَجت حرُوفِي : « لَم يحدُث شَيء .. ».

طَالعنِي بذبُولٍ تَسللهُ تشوشٌ قَبلَ أَن يُدحرجَ حَدقتيهُ لبُقعةٍ جَعلت ابتَسامةٌ بَاهتة ترتفِع عَلى شِفتيهُ حتَّى تُخرج حرُوفهُ : « لَ-لَقد أنَقذتُه ».

رَمقتُ مَا كَان يعنِيه ووجدتُ مِن الطفِل الصغِير يُعانِقُ وَالدتهُ التِّي تنتحِبُ عَلى مَا كَاد يُصيبُ ابنهَا فَ أعَادنِي لهُ بصوتهِ المُتعَب : « أنَا .. أسفٌ أُورين ».

ضُربَت كلمَاتهُ بصَوتهِ المُرهقُ فِي قَلبِي

أثنَاء بَصقهِ لِدماءهِ عِبَر ثَغرهِ لتنسَاب تردُدَاتِي وهِي تُكرر نفيًا كَان عَليهِ أَن يكُون حقيقيًا : « أنتَ .. لَن تَرحل، أنتَ لَن تَرحَل أركتُورُوس ! ».

وَجدتُ مِن أجفَانهُ تنسَدِلُ بإرهَاقٍ وَاضحٍ

جَعل مِن شَهقتِي تخِنُقِي حتَّى تَسلل صوتِي البَاكِي مُترجيًا : « أرجُوكَ أركتُورُوس .. لَا تَرحل، أرجُوك لَا

تَرحل، أرجُوكَ .. أَن تَبقى معِي ».

بَكيتُ وَخرجَ نحِيبِي كَأننِي أتقيَّءُ مَا دُفنَ فِي جوفِي بينمَا أُعانِقُهُ وأَنا أُكرر حرُوفِي التِّي علمتُ جيدًا أنهَا لَن تصِلَ لِمَن .. كَتبَ مِن الودَاعِ طريقًا لهُ.

« لَقد وعدتنِي أَن تَبقى .. ».

« أرجُوكَ أركتُورُوس، لَا تَرحل ».